بقلم مشير باسيل عون
غالبًا ما يخلص أهل الحكمة والاعتدال إلى رفض التواطؤ التاريخيّ الذي طرأ على المقصد الإيمانيّ في الأنظومات الدينيّة التوحيديّة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة. واليقين أنّ الإيمان توقٌ إلى الله، معنى الوجود الأسمى وأصل الأصول ومبتغى الكائنات كافّة. أمّا الدين، فهو تعبيرٌ ثقافيٌّ عن كيفيّات احتضان الاجتماع الإنسانيّ للمقصد الإيمانيّ في تنوّع تجلّياته. فإذا كان الإيمان واحدًا في توق الإنسان إلى بلوغ المعنى الروحيّ الأسمى للوجود، فإنّ الأديان قد تتنوّع تعابيرها الثقافيّة في تدبّر حالات الاختبار الإيمانيّ الفرديّ والجماعيّ. فالحكمة الإلهيّة واحدةٌ في محبّة الناس ورحمتهم، ولو تنوّعت طرُق التدبير الإلهيّ في رعاية التوق الإنسانيّ إلى المطلق. ولكلّ قوم سبيلٌ إلى الله. ولا يجوز أن يدّعي قومٌ من الأقوام أنّه يمسك بمبادرة الله إمساكًا مطلقًا به ينقلب الفعلُ الإلهيّ أسير المبادرة التي يخصّ بها الجماعة الإنسانيّة في زمن من الأزمنة وصقع من الأصقاع وموضع من المواضع. ذلك أنّ الله هو طاقةٌ عظمى من الابتدار المحبّ، لا تني تجذب الإنسان إلى الانفتاح في العلاقة والتجاوز في الانعتاق والارتقاء في الأخلاق والاكتمال في الرقيّ.
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المقدّمة النظريّة هي الشرط الأساسيّ الذي يتيح للعقل الإنسانيّ أن ينفتح على آفاق التعدّد الدينيّ. فإذا انغلق العقل الدينيّ على أعتاب هذه المقدّمة، أصابه شللٌ خطير في تدبّره للمسألة كلّها. ذلك أنّ التمييز بين الإيمان كاختبار روحيّ أصيل للحبّ الإلهيّ والدين كأنظومة ثقافيّة تعبّر عن مثل هذا الاختبار هو السبيل الوحيد لإخراج الأديان من أزمة الاستعلاء ومشيئة الإقصاء وميول الحصر والإمساك وادّعاءات الإطلاقيّة. وما من خلاص للعقل الدينيّ الكونيّ إلاّ بانتهاج هذا السبيل من الاعتراف الهنيّ الوضيع بتنوّع السبُل إلى الله. وما من حرج أنّ يظلّ سبيلي هو الصراط الذي به يستقيم لي ولشركائي في الإيمان معنى الوجود والسعادة. أمّا النظر في مضامين الوحي الإلهيّ التي تبتهج الأديان في اقتبالها والائتمان عليها، فأمرٌ جليلٌ يقتضي الحكمة والتدبّر في إدراك تنوّع الاختبارات الإيمانيّة التاريخيّة وتنوّع السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة الناظمة لمثل هذا الاقتبال.
ولا غرابة من ثمّ أن يستتبع هذا الضرب من التمييز تبصّرًا ناقدًا جريئًا في اقتران المعنى الروحيّ بالواقع الاجتماعيّ التاريخي. ومن المعلوم أنّ مثل هذا الاقتران ينبسط على وجوه ثلاثة. فالوجه الأوّل من هذا الاقتران يقضي بأن يحمل المعنى الروحيّ طاقةَ السيطرة المباشرة على مسرى الزمن والتاريخ، فينطوي على تفاصيل النظام التاريخيّ الذي يحكم الاجتماع البشريّ بأسره. وبذلك ينشأ من صلب الأنظومة الدينيّة نظامٌ دينيّ شامل يضبط الحياة الإنسانيّة في أدقّ أحكامها وتفاصيلها، مستندًا إلى مرجعيّة إلهيّة وسلطة دينيّة مؤسّسة على المرجعيّة الإلهيّة ونصّ دينيّ مغلق ونهج تفسيريّ محكم. فإذا بالدينيّات تقترن بالاجتماعيّات وبالسياسيّات اقترانًا وثيقًا يضمن ديمومة المذهب الدينيّ وتماسك الجماعة وتناسل السلطة.
وثمّة وجهٌ ثان لهذا الاقتران يُدعَى بالنظام العَلمانيّ الشامل المطلق يقوم على الفصل التامّ بين الاختبار الإيمانيّ والواقع الاجتماعيّ والسياسيّ. وهو اقترانُ المباعدة المطلقة بين المعنى الروحيّ الذي يسعى إليه أهل المدينة الإنسانيّة ونظام الاجتماع الإنسانيّ الذي يخضع لتوافق حرّ على التعاقد ينبثق من إرادة الأفراد في التضامن الحامي والمعايشة السلميّة. ويستند مثل هذا التعاقد إلى المباحثة والمناقشة، فيتطوّر بتطوّر الأحوال والأوضاع. وممّا لا ريب فيه أنّ مثل هذه العَلمانيّة الحادّة المطلقة ما اختبرتها قطّ المجتمعات البشريّة في الأزمنة الحديثة. ذلك أنّ الإنسان المعاصر ظلّ يتوق إلى التجاوز والتعالي، ولو أنّه في بعض الأحيان يُلبس المعنى الإيمانيّ رداء المثال التاريخيّ الكامن في تضاعيف الزمن.
أمّا الوجه الثالث، فهو النظام العَلمانيّ المدنيّ المعتدل الذي يميّز دائرة الاجتماع الإنسانيّ من دائرة الاختبار الإيمانيّ، ولكنّه لا يفصل بينهما بل يتيح لأهل المدينة الإنسانيّة أن يستلهموا مقاصد الاختبار الإيمانيّ الذي يحرّك طاقات الوعي والفؤاد فيهم. فيأتي الاستلهام في صورة الانغلال الخفر في مطاوي الوجود التاريخيّ حتّى يتهيّأ للمعنى الروحيّ أن يهدي الحراك الإنسانيّ في تنوّع اختباراته من غير أن يُكره المجتمع الإنسانيّ على إنزال بعضٍ من تجلّيات المعنى الروحيّ هذا في بنى التنظيم الاجتماعيّ والسياسيّ والقانونيّ والاقتصاديّ. ومغزى هذا التمييز أنّ الاختبار الإيمانيّ للجماعة الإنسانيّة يصقل الإحساس الإنسانيّ ويهذّب العلاقة الإنسانيّة ويحرّك الفؤاد المحبّ الرحوم ويهب المدينة الإنسانيّة أفق الوجود الأرحب وتماسك الكيان الضمنيّ ومعنى النضال التاريخيّ الأسمى، فيما الحكمة الإنسانيّة التدبيريّة تضبط الاجتماع السياسيّ في نظام من الحقوق والواجبات يضمن للجميع المعايشة السلميّة المتضامنة الخلاّقة الرفيعة.
ولا ريب في أنّ مثل هذا النظام العَلمانيّ المدنيّ المنفتح المعتدل هو السبيل الأوحد الذي يتيح للمجتمعات الإنسانيّة المتعدّدة أن تحيا في غير تظالم وتصارع وتناحر. ولقد أثبت التاريخ أنْ ما من نظام دينيّ، مهما سمت مقاصده ونبهت مقولاته، يقوى على صون المعنى الروحيّ الرفيع وصون حرّيّة الاختبار الإيمانيّ الفرديّ والجماعيّ في نطاق المدينة الإنسانيّة الواحدة. وكم حريٌّ بنا أن نعتبر بما انحرفت إليه الأنظومات الدينيّة التوحيديّة حين راحت تواطئ السلطان السياسيّ. فالحكمة الإنسانيّة عينها تقضي بأن يفتضح العقلُ الدينيّ نفسُه التواطؤ الدينيّ الذي انسلّ خلسةً إلى الأنظومة الدينيّة. والأمثلة على هذا التواطؤ وافرةٌ، بها امتُحنت الأديان كلّها.
فاليهوديّة ابتُليت بمثل هذا التواطؤ حين ظنّ أهل التفسير التوراتيّ أنّ الأرض الموعودة هي موضع انتصار الإرادة الإلهيّة على تنوّع الاختبار الإنسانيّ الحرّ. فكانت مقولة الأرض الموعودة موضعًا من مواضع التواطؤ المنحرف بين الدين والسياسة في الأنظومة الدينيّة اليهوديّة. والمسيحيّة أيضًا ابتليت بمحنة التواطؤ عينها. فظنّ بعض المسيحيّين أنّ مدينة الله على الأرض يعضدها تواطؤ السلطان الكنسيّ والسلطان السياسيّ هي برهان الانتصار الإلهيّ على خطيئة الناس وضلال البشر. ولم ينجُ الإسلام من محنة التواطؤ، إذ سيّر بعض أهل التفسير القرآنيّ في الناس أنّ رحمة الله وهدايته تقترنان اقترانًا لا انفصام فيه بالخلافة الإسلاميّة الظافرة وبالنظام السياسيّ الإسلاميّ المهيمن وبالحاكم الإسلاميّ المعصوم.
والحال أنّ التاريخ البشريّ أثبت للجميع ضعف الدليل على فلاح مثل هذه الأنظمة الدينيّة السياسيّة الشموليّة. وغدا الجميع يدركون أنّ الأزمنة الحديثة أفرجت عن مكتسب فكريّ هو من أعظم مكتسبات الإنسانيّة، عنيتُ به الاعتراف الرضيّ الهنيّ بالتنوّع الأصليّ الشرعيّ في الاختبار الإنسانيّ. وما الاختبار الإيمانيّ سوى وجه سَنِيّ من وجوه هذا الاختبار. ولا يفيد البتّة أن تحتكر الأنظومات الدينيّة أبوّة هذا المكتسب. ذلك أنّ التعدّديّة هي، في عرف الحداثة، أصلٌ في ذاتها، فيما تظلّ، بحسب العقل الدينيّ، فرعٌ من فروع الحقيقة الإلهيّة. فالتنوّع في الأنظومة الدينيّة هو، في أفضل الأحوال وبحسب ألطف التبريرات اللاهوتيّة الرسميّة، واقعٌ شاذٌّ يرضى به الإنسان المؤمن على مضض، ولا يلبث أن يُرجعه إلى الحكمة الإلهيّة الممتنعة الوصف. أمّا في الأزمنة الحديثة، فالتنوّع هو الأصل التفسيريّ الأوّل والأخير للكون. ولذلك كان النظام العَلمانيّ المدنيّ المعتدل هو الأضمن للاجتماع اللبنانيّ القائم على تنوّع الانتماءات الدينيّة.
فالعَلمانيّة التي استبق الغربُ الفكريّ الناسَ إليها لا تدّعي إكراه الإنسان على مناصرة المعنى الواحد والصيغة الواحدة والنظام الواحد. هي إطار الاحتضان الوحيد الذي يتيح للاجتماع اللبنانيّ أن يميّز دائرة التدبير السياسيّ من دائرة الاختبار الإيمانيّ. ذلك أنّ الرابط بين العَلمانيّة الغربيّة والمدنية الإنسانيّة الغربيّة هو رابطٌ تنظيميّ بحت يُتيح للإنسان أن يناصر أيّ ضرب من ضروب الغيبيّات الدينيّة والأصول الماورائيّة والقيَم الروحيّة بشرط ألاّ يتعارض هذا كلّه هو وأصل الأصول في الوجود الإنسانيّ، عنيتُ به مبدأ الحرّيّة الإنسانيّة الفرديّة الذاتيّة.
وإنّي لستُ من الذين يحرّضون على إدماج العَلمانيّة الغربيّة في صلب الواقع اللبنانيّ إدماج الاستيراد والاستغراب والإكراه. فالأمر مستحيلٌ، على ما يذهب إليه علماء الاجتماع. فالعَلمانيّة الغربيّة عَلمانيّات، والمجتمع اللبنانيّ غير منبثق أصلاً من تربة الاختبار الفكريّ الغربيّ. ولكنّ الناس في الزمن الحاضر قادرون على التحاور والتبادل والتقابس.
فإذا أراد اللبنانيّون أن ينقذوا معيّتهم الإنسانيّة السقيمة، كان عليهم أن يسارعوا إلى التفكّر الرصين في فوائد هذه العَلمانيّة المعتدلة المنفتحة الطيّبة الهنيّة. فهي عَلمانيّة معتدلة لأنّها تُفرد للاختبار الإيمانيّ المقام الأسنى في النظام الاجتماعيّ اللبنانيّ، إذ من معين هذا الاختبار يغترف اللبنانيّون معنى الوجود والنضال والسعادة وقيَم التضامن والتراحم والتآخي. وهي عَلمانيّة منفتحة لأنّها لا تني تبحث عن أنسب السبُل اللبنانيّة الصنع لتكييف هذه العَلمانيّة في البيئة اللبنانيّة وللإفادة الجمّة من اختبارات الاجتماع الإسلاميّ واختبارات الاجتماع المسيحيّ واختبارات الاجتماع الغربيّ المحايد. وهي عَلمانيّة هنيّة لأنّها لا تروم أن تأخذ طريقها إلى الناس إلاّ بالموادعة والمسالمة والتحاور والتباحث البنّاء. وهي عَلمانيّة طيّبة لأنّها تنشر أريجًا عذبًا يعطّر العلاقات بين الجماعات اللبنانيّة حين تلتزم التقريب بين القلوب المتنافرة والعقول المتباعدة، وتُعرض عمدًا عن الاصطفاف والحصص والمناصب.
وفي صلب اليقين الفكريّ الذي تنهض عليه هذه العَلمانيّة أنّ الإنسان في لبنان هو أوّلاً الإنسان المواطن الذي يسعى إلى العدل والإنصاف في الاجتماع اللبنانيّ، وهو ثانيًا الإنسان الباحث عن السعادة إمّا داخل الأنظومة الدينيّة التي يناصرها وإمّا داخل الأنظومة العَلمانيّة التي يتوق إليها. فالإطار الأنسب الذي يرعى ماهيّة المواطن في لبنان إنّما هو التدبير الحكيم في المدينة الإنسانيّة السليمة التي تضمن العدالة للجميع. أمّا الإطار الإنسب الذي يرعى ماهيّة الإنسان الباحث عن السعادة، فهو الاقتناع الإيمانيّ الذاتيّ الفرديّ الذي يُسلك الإنسان في مسرى المعنى الروحيّ الضامن للسعادة.
ولا يخفى على أحد أنّ الاجتماع اللبنانيّ ملتبس الهويّة، مشتّت القوام. ويظنّ كثيرون أنّ الدولة في لبنان علمانيّة الجهاز، فيما المجتمع طائفيّ الهوى. قد يصحّ هذا القول في قدر كبير من أجزائه. بيد أنّ المشكلة العظمى في الاجتماع اللبنانيّ هي هيمنة المجتمع الطائفيّ على الدولة العَلمانيّة المفترضة. فالأفراد في لبنان ما انفكّوا يضعون انتماءهم الطائفيّ في مقام الصدارة، ومن ثمّ يعرّجون على الانتساب إلى الدولة. فاللبنانيّ هو أوّلاً ابن طائفته، ومن ثمّ مواطن الأرض اللبنانيّة والدولة اللبنانيّة. أمّا اللبنانيّون العَلمانيّون، فلا مكان لهم تحت السماء اللبنانيّة، إلاّ على قدر ما يحجب بعضُهم فكرهم العَلمانيّ فيواطئون المنطق الطائفيّ للفوز بقسطهم الشرعيّ من إدارة الاجتماع اللبنانيّ. ولكم يُكره اللبنانيّون على المثول أمام السلطات الطائفيّة لبتّ مسائل الأحوال الشخصيّة، فيما هم لا يشاطرون هذه السلطات الاختبار الإنسانيّ والإيمانيّ نفسه.
وقصارى القول أنّ اللبنانيّين أهلٌ للمسعى العَلمانيّ إذا هم أدركوا أنّ بقاءهم على هذا المنحى الطائفيّ المنحرف هو أقرب السبُل إلى الضياع والاقتتال المطّرد. فلينهض أصحاب البصيرة الفكريّة المنفتحة إلى إضعاف الطائفيّة اللبنانيّة وتحويل الاختبار الإيمانيّ طاقة روحيّة للإلهام والهداية. وما من سبيل أرفع للبلوغ إلى هذه الغاية الشريفة من النضال في سبيل هذه العَلمانيّة اللبنانيّة المعتدلة التي تشرّع الزواج المدنيّ الاختياريّ، وتحرّض على انتخاب مجلس للشيوخ عَلمانيّ الهويّة والقوام والوظيفة، وتُكبّ على تدريس العَلمانيّة في الصروح التربويّة. هذا كلّه في مسعًى من الموادعة الصافية التي تذهب في تؤدة ما بين حجج المناهضين للعَلمانيّة ونظريّاتهم، فتُظهر منافع مثل هذا الارتداد في الاجتماع اللبنانيّ. ولا يصدر منها كلمةٌ ناشزة أو ردُّ جفاء، ولا شيء يجرح الإحساس اللبنانيّ الإيمانيّ، بل هي اليد العَلمانيّة الطيّبة تراعي المنزع الطائفيّ اللبنانيّ، فتداويه وتعترف بما لديه من صواب قبل أن تعمل المشرط في النواحي القلقة الفاسدة.
(أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة)
|