Date: Jun 18, 2017
Source: جريدة الحياة
عقلنا الخرافي من «البروتوكولات» إلى «الترتيبات» - وحيد عبدالمجيد
كلما نشبت أزمة غير متوقعة، أو لم تكن مقدماتها واضحة بما يكفي، أو بدا أنها مفاجئة، تجدد الحديث عن ترتيبات جديدة في الشرق الأوسط أو العالم العربي. يلجأ الطرف الخاسر في الأزمة وأنصاره إلى تفسير تآمري سهل يدور حول التحذير من ترتيبات تُطبخ في غرفة أو غرف معتمة لا يعرف أحد أين تقع، والذي يقيم فيها أو يذهب إليها لإعداد «طبخة» يُقال منذ السنوات الأخيرة في القرن الماضي إنها قيد الطبخ.

تجدد حديث الترتيبات، وإعادة الترتيب، عقب العقوبات التي فرضتها السعودية ومصر والإمارات والبحرين على قطر، على رغم أنها لم تأت من فراغ، ولا تُعد مفاجئة وفق منهج التراكم الكمي والتغير النوعي. وجد من يربطون مقاطعة قطر بترتيبات جديدة في المنطقة ضالتهم في بعض «تغريدات» الرئيس دونالد ترامب التي فُهم منها أنه تحدث مع بعض القادة العرب عن دور الدوحة في تمويل الإرهاب خلال القمة الإسلامية - الأميركية في الرياض. وكان سهلاً ربط المقاطعة والتغريدات ببضع مقالات في صحف غربية، تضمن كل منها اجتهاداً شخصياً لكاتبها في شأن أثر هذه القمة في مستقبل المنطقة.

والحال أنه ليس جديداً اللجوء إلى «شماعات» خارجية لتعليق أزمات أو اختلالات داخلية وإقليمية عليها، انطلاقاً من صورة نمطية تكونت في العصر الاستعماري، ورسَّخها اعتماد سلطات «التحرر الوطني» عليها لاكتساب شرعية «نضالية».

ما زالت تلك الصورة النمطية تُستدعى وتُوظف لتبرير سوء أداء ما، أو إلهاء الناس عما يراد صرف الانتباه عنه، أو ارتداء لباس الضحية، ما أدى إلى تكريس نمط تفكير خرافي بسيط لا يدرك معطيات العالم الراهن وتعقيداته.

وعلى مدى نحو سبعة عقود، ارتبط انتشار التفكير الخرافي بتوسع خطاب المؤامرة الذي استُخدمت قضية فلسطين بكثافة شديدة فيه، منذ ترويج خرافة «بروتوكولات حكماء صهيون» التي فاق انتشارها حينذاك أساطير تاريخية متداولة منذ قرون. وصدر عدد يصعب حصره من الطبعات لكتاب مجهول مصدره يحمل هذا الاسم، ويتحدث عن خطة يهودية للهيمنة على العالم. وشاع الاعتقاد بأن هذه «البروتوكولات» تُطبق في العالم، وكُتبت عنها عشرات الكتب وآلاف المقالات، واستُند عليها في أعمال درامية عربية أشهرها مسلسل «فارس بلا جواد» الذي عُرض في 2002.

وليس بعيداً من «البروتوكولات» التي لا تُذكر حتى اليوم إلا استدعت صورة لم يؤثر مرور الزمن فيها، صُنعت صورة للحركة الماسونية في العالم مُحمّلة بأجواء الغموض والخيانة والارتباط بالصهيونية، أو باستخبارات تعمل لمصلحتها وتدعم أطماعها. وظل صانعو هذه الصورة، والمتأثرون بها، يتجاهلون أو يجهلون بحوثاً أُجريت حول الماسونية وتاريخها ومغزى حضورها في شرق المتوسط مطالع القرن العشرين، وآخرها كتاب دوروثي سومير «الماسونية في الإمبراطورية العثمانية – تاريخ الأخوية وأثرها في سورية والمشرق» (الصادر عن «دار توريس» في لندن العام الماضي).

تقدم سومير في هذا الكتاب تحليلاً عميقاً للعلاقة بين الضغوط الاجتماعية والهزات الثقافية في مرحلة تحول تاريخي، وانتشار الماسونية التي قدمت للبورجوازية الصاعدة صيغة لبناء جسور عبر المدن والطوائف والأعراق، وتبادل الأفكار بين نخب مجتمعية خائفة من المستقبل إبان الانهيار العثماني.

كما استُخدمت قضية فلسطين لخلق خرافة أخرى حين أرادت نظم حكم عربية احتكار «الثورية» والنضال ضد الغرب، وإخراج الحركة الشيوعية من هذا الميدان، فسعت إلى تشويهها عبر اتهامها بالارتباط بالصهيونية. وكانت بضع كتب هزلية أُصدرت في الستينات عن العلاقة بين الشيوعية والصهيونية تُدرس في مدارس الكادر والمنظمات الشبابية التابعة لتلك النظم.

وورثت نخب سياسية عربية خطاب المؤامرة الذي صار أحد مبررات وجودها، مثلما كان من أهم أدوات إضفاء الشرعية على نظم حكم يواصل بعضها استخدام فلسطين حتى الآن، فيما يلجأ بعض آخر إلى إعادة بناء هذا الخطاب ليتمحور حول حماية «الدولة الوطنية» ومواجهة المؤامرات التي تهدف إلى تفكيكها أو تقسيمها، وإحباط التحركات الرامية إلى إيجاد ترتيبات جغرافية وإقليمية جديدة.

وصارت لهذه «الترتيبات» مكانة في العقل الخرافي العرابي الراهن تضاهي تلك التي كانت لـ «البروتوكولات»، منذ استخدام مفاهيم مثل «الشرق الأوسط الجديد»، و «الشرق الأوسط الكبير»، و «الفوضى البناءة» في العقد الماضي وأواخر العقد السابق عليه، وصولاً إلى ما يطلق عليه «سايكس – بيكو 2» في العقد الحالي الذي حلت في عامه الماضي الذكرى المئوية للتفاهمات البريطانية الفرنسية التي صارت إحدى أهم «شماعات» الفشل العربي.

وهكذا، وعلى مدى أكثر من ستة عقود، تكاثرت المؤامرات التي صُنعت روايات عنها وأُدخلت إلى العقل العربي ليزداد ميله الخرافي وتُختزل الكرامة لديه إلى مواجهة الخطر الأجنبي، والغربي أساساً. فإذا داست أجهزة السلطة على رقاب الناس، لا يُعد قهرها مساساً بالكرامة التي لا ينتهكها إلا الغرب المتآمر دوماً.

وصار سهلاً استقبال ما يصدر عن مفكرين وخبراء غربيين في ضوء الصورة المسبقة المرسومة لهم. وعندما تكون هذه الصورة شيطانية، يُقرأ كل ما يصدر لصاحبها في ضوئها، أو تُقدم كتاباته إلى الناس وفقاً لها حتى من دون قراءة، كما حدث أخيراً في صحف ومواقع الكترونية عدة نشرت أخباراً عن الترجمة التي أصدرها «المركز القومي للترجمة» في مصر لكتاب المستشرق الأميركي المعروف برنارد لويس «الإيمان والقوة – الدين والسياسة في الشرق الأوسط» الصادر بالإنكليزية في 2010. وقد استُدعي في كثير من هذه الأخبار ما أُشيع عن ورقة لويس التي قدمها إلى الكونغرس في نهاية السبعينات بوصفها حجر الأساس في مشروع تقسيم المنطقة، على رغم أن هذه الورقة كانت جزءاً من مشروع شارك فيه آخرون لتقديم تصور لمواجهة ما كانت واشنطن تعتبره حينئذ خطراً سوفياتياً في الشرق الأوسط. وقد أُسدل الستار على ذلك المشروع كله، عقب تفكك الاتحاد السوفياتي السابق. ومع ذلك ما زال هناك من يضعون ورقة لويس تلك في مقدم وثائق التآمر على العرب.

فما أشــقاه، وما أشقانا به، ذلك العقل الخرافي الذي اكتسب مناعة ضد المراجعة والتصحيح في رحلته الطويلة من «بروتوكولات حكماء صهيون» إلى ما يمكن أن نسميه «ترتيبات حكماء الغرب».