السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ٦, ٢٠١٥
الكاتب: نزيه درويش
المصدر: noondall.blogspot.com
في غياب اليسار الديمقراطي اللبناني وغياب سمير قصير
1- لم تكن "حركة اليسار الديمقراطي" حزبا عقائديا أو تنظيما بهَرَمية تقليدية. لقد خاطرَت منذ البداية بتبنّي هيكلية فضفاضة وغير منضبطة إفساحا في المجال أمام جميع أعضائها في التعبير بحرّية عن أنفسهم وأفكارهم، خاصة أنها أعلنت بوضوح أنها ضد اليقينيات والأفكار الجاهزة والمعلّبة، لا بل هي "تشجّع" تشكّل تيارات في داخلها على طريقة الاحزاب الديمقراطية الغربية العريقة.

2- تشكّلت الحركة من ثلاثة روافد أساسية: أ) مثقفين وناشطين يساريين مستقلين ب) منشقّين عن الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي ج) طلاب وشباب (جامعي بأكثريته) يساري مستقلّ. كما شكّلت الطبقة المتوسطة الحيّز الأكبر من جمهورها.

3- لم يكن تنوّع الروافد ليمثّل مشكلة، ولكن بغياب ايديولوجيا واضحة وغياب خطة مستقبلية أو عصب قوي (أو زعيم خالد!) يربط فيما بينها، سرعان ما تعود هذه المكوّنات الى طبيعتها الأولية وتمترساتها السابقة وأفكارها وتصوّراتها غير المتبلورة، فتتشظّى من غير قاسم مشترك واقعي غير المبادئ العامة والصداقة أو الاستهداف القاسي من الخصم.

4- عدم وجود تجارب حزبية سابقة لدى أكثرية الأعضاء وامتلاكها من فئة قليلة بينهم عجّل في استحواذ هؤلاء الأخيرين على "قرار" الحركة التي اعتقد "الشباب قليلي الخبرة في العمل الحزبي" ولكن الناشطين طلابيا وثقافيا أنه "مُلكهم" لأنهم هم عماد الحركة وروحها و"الجيل والدم الجديد" الذين حفِلَت وثائقها التأسيسية بإطرائهم وتشجيعهم و"العمل لأجلهم". سرّع ذلك في تأجيج الحساسيات المضمرة بين جيلين وفئتين لا زالت تطرح الأسئلة ولم يتسنّى لها الاجابة عليها.

5- بقدرته وموهبته العجيبة على حوار وإدهاش وإقناع من أمامه، مثّل سمير قصير ليس فقط عامل جذب كبير للحركة ومُجمِّل لها ورافع لبرنامجها، وإنما أيضاً قاسم مشترك لجميع روافدها من أي بيئة أتوا. فهو المناضل المخضرم ورجل العلاقات الغزيرة وصاحب الرؤيا السياسية الواضحة التي تناقش الحزبيين السابقين وغالبا "تدوزن" حركتهم، وهو الباحث الأكاديمي والكاتب الصحفي المنتمي الى "نادي المثقفين" يقود معهم وغالباً أمامهم تجربة حزبية للمرّة الأولى تحت يافطات اليسار الاجتماعي والتغيير السياسي ومقاومة الاحتلالين الاسرائيلي والسوري، وهو الشاب المستقلّ وغير الآتي من تجربة حزبية فئوية، الشغوف بالطلاب والشباب، المنتمي الى ثورتهم وتطلّعهم الى الانعتاق من القيود الاجتماعية والفكرية والدينية، يشاركهم جرأتهم ومغامراتهم حتى التهوّر، من غير ادّعاء أو غرور ولكن أيضا من دون تواضع كاذب.

6- غياب هذا العنصر الجامع (ولا أقول الموحِّد) كان لا بدّ من أن يهزّ في العمق الحركة الفتية الناشئة، أن يخلخل بنيانها غير المكتمل والهشّ أصلاً. ويعيد مكوّناتها عاجلا أو آجلا الى مربّعاتهم الأولى، الشباب والطلاب الى حدّ كبير في تكتّل، الحزبيين السابقين المخضرمين في تكتّل، والمستقلين والمثقفين في ضمور وانكفاء كبيرين.

7- عدم وجود خبرة تنظيمية فعلية لدى أكثرية الأعضاء ووجود بعضها لدى أقلية لم تنِ تتبرأ منها (لحسن الحظ كي لا تتكرّر تجربة التنظيم الأيديولوجي الحديدي)، وغلبة الأحلام الرومانسية لدى معظم "مثقفيها" بدل الواقعية والبراغماتية، في مقابل عدم الاطلاع على ثقافات وممارسات وتجارب تنظيمية حديثة ومعاصرة كتلك التي تتبنّاها أحزاب أوروبية شبيهة، كلّ هذا أرخى بثقله كفشل وتخبّط "إداري" لم تنجو منه الحركة، خاصة بعد غياب "المايسترو" ودخول الحركة في دوامة الاستهداف الذي طال فيما بعد كل قوى تحالف 14 آذار. 

8- تراجع مشروع "حلم 14 آذار" بشكل عام، وحركة اليسار هي بمعنى ما إبنة هذا الحلم، وتخبّط تحالف القوى التقليدية المتزعّمة لها وعودتها في أحيان كثيرة الى مشاريعها الفئوية الخاصة على حساب مشهدية يوم 14 آذار 2005، وعدم تمكّنها من بلورة مشروع واضح موحِّد ورؤية مشتركة للمستقبل البعيد والقريب، ما أنهك الجمهور العريض وجمهور الحركة أيضا التي وجدت نفسها فجأة على طاولة "الكبار" ولكن بلا وزن حقيقي. فحمّل هذا الجمهور، عن حق أحيانا ومن غير حق أحيانا أخرى، قيادة الحركة مسؤولية أخطاء وممارسات شاذّة لم تكن هي في موقع مَن يمنعها أو يصحّحها. فصارت كمَن يقبع في موقع "شاهدة زور" على أمور غالباً لم تشهدها! 

9- نجاح "الثورة المضادة" (الحلف السوري-الايراني وأدواته في لبنان) في إجهاض "انتفاضة الاستقلال" بعد الانقضاض عليها تفجيرا واغتيالا واسقاطا للحكومات وصولا الى احتلال بيروت، ما انعكس إحباطاً على كل الجمهور الاستقلالي ومثل رصاصة رحمة على الحركة الآخذة في التشرذم والتفكّك كجسد ما فتئ يحتضر. 

10- تراجع اليسار اللبناني والعربي عموماً وغرقه في ترتيب الأولويات وتناقضها أحياناً، بين القضايا المطلبية أو الوطنية العامة ، بين دعم أنظمة الاستبداد "الوطني" الممانعة أوالنضال ضدها، بين تغليب البراغماتية في التحالفات السياسية أو التمسّك "الارثوذكسي" بالمبادئ الأخلاقية والى أي حدٍ "تجوز" البراغماتية ، عدا عن مشاريع القوانين الانتخابية ، الحرّيات، حقوق المرأة، المساواة، الخ.. كلّ ذلك من منظارين: منظار المتنوّر الجريئ ومنظار الشارع (مراعاة معتقدات ومشاعر الشارع).. كان لا بدّ لذلك من الانعكاس على حركة فتية هشة تحاول السباحة في بحرٍ من الجمهور المنقاد الى زعماء طوائفه وتركيباته التقليدية. وقد تكون قد أخطأت في قراءة حدث 14 آذار 2005 الذي كان بمعنى من المعاني "خدعة بصرية" ما لبث أبطالها (الجمهور) أن عادوا الى كهوف انتماءاتهم السابقة لحظة مغادرتهم الساحة بناءً على "أوامر الصرف" التي هبطت عليهم من منصّة "الخطباء". فوجدت الحركة نفسها تسبح وحيدة على غير هدى.

11- لا يحجب كلّ ذلك أن تأسيس حركة اليسار الديمقراطي كان محاولة جديرة بالاحترام وبالتقدير. أن تحاول الجمع بين الهمّ الوطني (التحرير والاستقلال وتغيير النظام السياسي) والهمّ اليساري (الوقوف الى جانب القضايا العادلة والفئات الاجتماعية الأضعف لإنصافها)، من غير الوقوع في الشعبوية الانتهازية، وأن تحاول تشكيل تنظيم ديمقراطي فعلا، حيث لا آلهة ولا أنصاف آلهة ولا مكاتب سياسية مدى الحياة، تنظيم مستقلّ الى حد بعيد وغير مرتهن، يفتح المجال أمام شاباته وشبابه في التعبير الحرّ وإطلاق المبادرات وتبوؤ المسؤوليات بلا قيود، كان ذلك تماما ما عمل من أجله كثيرون منّا ولكن ما دفع في سبيله سمير قصير الثمن الأغلى.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
إقرأ أيضا للكاتب
المؤامرة المدنية في نصابها
ماذا لَوْ كان سمير قصير ما زال بيننا اليوم؟
لماذا لن تتكرَّر الحرب اللبنانية؟
“المجلس الوطني” لـ “14 آذار”: خِداع بلا إبداع!
عشرون ملاحظة شخصية لمراقب دولي الى الانتخابات التشريعية التونسية
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة