الجمعه ٦ - ١٢ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تموز ٣١, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الحياة
"سَودَنة" السودان - محمد سيد رصاص
لم يكن العقيد جون غارانغ انفصالياً عندما قاد التمرد الجنوبي السوداني الثاني في أيار (مايو)1983، والذي استمر حتى شهر كانون الثاني (يناير) 2005، بخلاف النزعة الانفصالية عند التمرد الجنوبي الأول بين آب (أغسطس) 1955 وآذار (مارس) 1972، بقيادة حركة "أنيانيا" وزعيمها جوزيف لاغو، والتي وقعت اتفاق العام 1972 للحكم الذاتي للجنوب مع حكم الرئيس جعفر النميري، بحيث أصبح لاغو نائباً للرئيس السوداني.

عندما وضع غارانغ "مانيفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان" في تموز (يوليو)1983، واجه الانشقاق الأول في حركته من قبل أفراد اندمجوا فيها من حركة "أنيانيا-2"، التي تأسست في عام 1978، وهو ما اضطره إلى مجابهتم بالسلاح وقتل زعيمهم (اكوات اتيم).

في الـ "مانيفستو" المذكور، طرحت فكرة "السودان الجديد الذي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن العرق والقومية والانتماء الإثني أوالدين أوالجنس أوالجهوية المناطقية". كانت تلك فكرة جديدة في الساحة السودانية وتعاكس تراث الحركات الجنوبية الانفصالي - الجهوي.

تنطلق تلك الفكرة من أن العرب المسلمون هم أكبر الأقليات في السودان الذي استقل عن البريطانيين في عام 1956 (39 في المئة من السكان وفق روزنامة العالم لعام2010 الصادرة في نيويورك، ص840)، فيما يشكل الأفارقة بعرقياتهم المختلفة (الزغاوة والفور في دارفور، الدينكا والنوير في جنوب السودان، النوبيون في جنوب كردفان، الإنقستا في النيل الأزرق، إلخ..) نسبة 52 في المئة من السودانيين، وقبائل البيجا عند البحر الأحمر والحدود مع إريتريا سبعة في المئة (المرجع ذاته). وإضافة إلى التنوع القومي – الإثني، هناك تنوع ديني: المسلمون 70 في المئة والمسيحيون خمسة في المئة، والباقون وثنيون أو احيائيون.

كان رأي غارانغ أن كل الهويات: العربية والزنجية والأفريقية والإسلامية، لن تكون جامعة للسودانيين في بوتقة قومية واحدة باستثناء "السَودَنة" (سودانيزم). وكان هذا سبب انضمام عرب (منصور خالد وياسر عرمان) ونوبيون (يوسف كوة مكي وعبد العزيز الحلو) ومعهم مالك عقار من ولاية النيل الأزرق، إلى "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، وقد كانت فكرة "السودان الجديد"، السبب في انشقاق آب (أغسطس) 1991 الذي قام به القائد العسكري في الحركة ريك مشار ومسؤول التفاوض السياسي فيها (لام أكول)، ليؤسسا "الحركة الشعبية" – "قوات الناصر" ذات التوجهات الانفصالية، كما كانت تلك الفكرة سبباً للخلافات التي ظهرت في "الحركة الشعبية"، عشية توقيع "اتفاقية نيفاشا" للسلام في جنوب السودان في التاسع من كانون الثاني (يناير) 2005، بين غارانغ المنادي بـ "سودان موحد وجديد" وبين جناح سيلفا كير ومعه مشار العائد منذ 2002 إلى صفوف الحركة، وهما يناديان بحق تقرير المصير وخيار الانفصال كطريق يمر عبر الاستفتاء الذي كان موضوعاً في مسودة الاتفاقية التي وقعت بين غارانغ وعلي عثمان طه نائب الرئيس السوداني، والتي أصبح بموجبها غارانغ (ثم سيلفا كير بعد مقتل غارانغ بحادث طائرة في 30 تموز 2005) نائباً للرئيس السوداني في الفترة الانتقالية. وهكذا، شكل انفصال الجنوب في عام2011 انتصاراً لفكرحركة "أنيانيا" على غارانغ.

ما يلفت النظر هنا، تأسيس "الجبهة الثورية السودانية" في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)2011، بعد أربعة أشهر من انفصال الجنوب، وضمت: "الحركة الشعبية لتحرير السودان" - قطاع الشمال، بقيادة مالك عقار وياسر عرمان و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" - قطاع الشمال أيضاً بقيادةعبدالعزيز الحلو، و"حركة تحرير السودان" الدارفورية بقيادة مني ميناوي، و"حركة تحرير السودان" الدارفورية بقيادة عبدالواحد نور، و"حركة العدل والمساواة" في دارفور بقيادة الوزير السابق خليل ابراهيم الذي خرج مع حسن الترابي في عام1999 على حكم عمر البشير (قتل خليل ابراهيم في كانون الأول (ديسمبر) 2011 وتولى أخاه جبريل قيادة الحركة من بعده). وتبنت "الجبهة الثورية السودانية" فكرة غارانغ عن "السودان" الجديد).

قبل أيام من سقوط حكم الرئيس عمر البشير، تم التوقيع على ميثاق "قوى الحرية والتغيير"، كإطار عريض للمعارضة السودانية، وكانت "الجبهة الثورية" من القوى الموقعة.

وفي المفاوضات التي جرت في الشهرين الأولين بعد انقلاب 11 نيسان (أبريل) الماضي - الذي أطاح بالبشير - بين "المجلس العسكري الانتقالي" و"قوى الحرية والتغيير"، كان ياسر عرمان مشاركاً في الاجتماعات، ثم جرى سجنه وإبعاده إلى خارج السودان. وعند توقيع "الاعلان السياسي" بين الطرفين المتفاوضين في 17 تموز (يوليو)، اعترضت "الجبهة الثورية"، ومعها "الحزب الشيوعي" على النص الموقع. الملفت للنظر هنا، تعطل آلية تنفيذ النص الموقع إثر ذلك، ثم انتقال "قوى الحرية والتغيير" للتفاوض مع "الجبهة الثورية" في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ثم ذهاب وفد من "المجلس العسكري الانتقالي" للتفاوض مع "الجبهة الثورية" في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان وبرعاية الرئيس سيلفا كير، في مسار يدل على عدم امكان حكم الخرطوم، حتى مع انفصال الجنوب، من خلال اتفاق قوى تمثل أساساً عرب الشمال السوداني، وهما الطرفان الموقعان على اتفاق 17 تموز.

يمكن هنا استعادة البعض من الماضي السوداني: عقب التوقيع على "ميثاق طرابلس الغرب" لتأسيس "اتحاد الجمهوريات العربية" في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 بين الرؤساء: المصري أنور السادات والليبي معمر القذافي و السوداني جعفر النميري، اعترض عليه ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة الحاكم في السودان، هم: المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمدالله والرائد هاشم العطا. وبالتوازي، أصدر "الحزب الشيوعي السوداني" بياناً اعتراضياً. كان الاعتراض مبنياً على أن السودان لايمكن أن ينخرط في تركيبة وحدوية عروبية بحكم تركيبته البالغة التنوع، وانطلاقاً من كون العرب أقلية في وليسوا أكثرية، وأن تمرد الجنوب هو احتجاج على استئثارهم بالحكم في الخرطوم. حينها، اعتقل الأمين العام لـ "الحزب الشيوعي السوداني" وتم ابعاد الضباط الثلاثة من عضوية مجلس قيادة الثورة وجرى تسريحهم من الجيش. وفي 29 حزيران 1971، تم تهريب محجوب من السجن وتخبئته في احدى غرف القصر الجمهوري من قبل قائد الحرس الجمهوري (العقيد عثمان الحاج حسين أبوشيبة). وفي 19 تموز1971، جرت محاولة انقلابية ضد النميري بقيادة الضباط الثلاثة ودعم الشيوعيين، لكنها فشلت بعد ثلاثة أيام. ومع ضربه الشيوعيين، اتجه النميري نحو الغرب، وكان هذا الاتجاه مترافقاً عنده أيضاً مع الابتعاد عن العروبة، ومع التوجه برعاية الامبراطور الاثيوبي هيلا سيلاسي وواشنطن، إلى عقد اتفاق آذار (مارس) 1972 مع الجنوبيين.

ومع تزعزع حكمه أمام تمرد غارانغ، اتجه النميري نحو الأسلمة وأعلن "فرض الشريعة الاسلامية" في أيلول (سبتمبر)، 1983 مدعوماً من زعيم الاسلاميين حسن الترابي.

سقط النميري في السادس من نيسان (إبريل) 1985، ثم سقط الحكم البرلماني بانقلاب عسكري قاده تنظيم الترابي في 30 حزيران (يونيو)1989، وأتى عمر البشير رئيساً لـ "نظام الانقاذ"، الذي لم يستطع انقاذ السودان من التفكك وانفصال الجنوب، ومن تمرد دارفورفي عام2003، وتمردات النيل الأزرق وجبال النوبة و البيجا، عبر "لاصق الإسلام" الذي ظن الترابي والبشير أنه لاصق جامع للسودانيين العرب وغير العرب.

يبقى السؤال: هل سينتصر فكر جون غارانغ في الشمال السوداني بعد هزيمة فكرته عند أبناء جلدته الجنوبيين الذين اتجهوا نحو الانفصال خلافاً لرغبته، والذين عاشوا قتالاً دموياً إثنياً قسًم سلطة ومجتمع الدولة الجنوبية الجديدة بين سيلفا كير الدينكاوي وريك مشار النويري؟....

* كاتب سوري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي يبحث «الانتقال الديمقراطي» في الخرطوم
ملاحظات سودانية على مسودة الحلو في مفاوضات جوبا
«الجنائية الدولية» تتعهد مواصلة مطالبة السودان بتسليم البشير
تعيين مناوي حاكماً لدارفور قبل اعتماد نظام الحكم الإقليمي
مقتل سيدة وإصابة 8 أشخاص في فض اعتصام جنوب دارفور
مقالات ذات صلة
وزير داخلية السودان يتوعد «المخربين» بـ«عقوبات رادعة»
تلخيص السودان في لاءات ثلاث! - حازم صاغية
"ربيع السودان".. قراءة سياسية مقارنة - عادل يازجي
تعقيدات الأزمة السودانية - محمد سيد رصاص
هل ولى زمن الانقلابات العسكرية في السودان؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة