السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
بيانات
التاريخ:
أيلول ٩, ٢٠١٨
المصدر:
جريدة الحياة
عن أحوال الإسلام السياسي صعوداً وانحساراً - حسن شامي
ثمة نوع من الإجماع على أن حراك المجتمعات في غير بلد من بلدان الربيع العربي، أسفر عن سطوع ظاهرة بعينها استدعت واستثارت اصطفافات متضاربة. الظاهرة التي تحولت بسرعة إلى مادة استقطابات حادة هي ظاهرة صعود الإسلام السياسي إلى السلطة، ومن ثم انحساره بطريقة لا تخلو من الالتباس المفتوح على تأويلات مختلفة ناهيك ببقائه صفة مثيرة للجدل.
ومن الأمور المتفق عليها ربما، أن الظاهرة هذه تحكّمت إلى حد بعيد، بغض النظر عن رأينا فيها، بما آلت إليه وجهة الاحتجاجات والانتفاضات ومساراتها المضطربة. الوجهة هذه لا تزال قيد التجاذب على الرغم من أن أوضاع بعض البلدان تشي بقدر من الاستقرار الواعد بتدجين الخطاب الإسلامي وقواه السياسية. ومن السذاجة أن ننسب مآل الحراك الاحتجاجي ومآل الإسلام السياسي إلى العوامل الداخلية حصراً كما أنه من السذاجة أيضاً أن نرده حصراً إلى العوامل الخارجية. فالمدار الحقيقي الذي يرتسم فيه هذا المآل يقع في حقل العلاقة المعقدة بين العوامل الداخلية والخارجية. فهذه العلاقة والشكل الذي تتخذه أصبحا أبرز مصادر الشرعية المتحصلة للسلطة.
ما نقوله ينطبق على الحالتين المصرية والتونسية فيما وجهة الانتفاض في بلدان أخرى مثل ليبيا واليمن وسورية تكاد تكون إشهاراً لاضطراب الوجهة والغرق في فوضى نزاعات أهلية من كل الأنواع. فلنذكّر بأن إقصاء رأسي النظام في تونس ومصر حرّر مساحات وفضاءات للعبة السياسية كانت النخبة السلطوية قد صادرتها وحجزتها، بحيث جعلتها أشبه بوقف عائلي لمجموعة من البشر. وقد رأينا وتابعنا المسار الانتخابي المنبثق عن حراك تصدرته حيناً وشاركت فيه حيناً آخر قوى وفئات من مشارب مختلفة. لكن هذا المسار أفصح بوضوح عن اكتساح الإسلام السياسي وسيطرته، انتخابياً في الأقل، على مؤسسات الدولة. سردية هذا المسار باتت معروفة ولا حاجة إلى التوسع في التجربتين التونسية والمصرية وما شهدتهما من انتصار حزب النهضة الإسلامي في تونس و»الإخوان المسلمين» في مصر قبل الانقلاب «الشرعي» وغير القانوني على السلطة التي جسدها محمد مرسي.
يكفي أن نتوقف عند الخطوط العريضة للتجربتين. في ما يخص الحالة التونسية هناك ما يشبه التوافق على أنها تبقى استثنائية ولكن من دون أن يحصل توافق على تفسير صفة الاستثناء هذه ومقدماتها وأسبابها. فهناك من يرى أن حيوية المجتمع المدني وحضور الطبقة الوسطى المتعلمة والحديثة في تونس شكّلا قوة لجم كبحت جموح حزب النهضة إلى الهيمنة والاستئثار بالسلطة. ويفترض أصحاب هذا الرأي أن مناورات الحزب الإسلامي الذي يتزعمه راشد الغنوشي ليست سوى تكتيكات موقتة وزائفة في خدمة استراتيجية سلطوية لا يرقى الشك إلى بعدها الإقصائي والجذري.
على الضفة المقابلة تقريباً، يرى البعض الآخر أن النجاح النسبي الذي حققه حزب النهضة من خلال تحالفه الانتخابي والسياسي، منذ البداية، مع قوى وشخصيات ليبرالية ويسارية إنما يعود إلى مرونة خطابه السياسي والثقافي وإلى وجود مناظرة حقيقية داخل صفوفه مما يجعل من حرصه على توازنه الداخلي ممهداً لحاجته إلى نوع من التسوية والتوازن مع قوى أخرى لا تتصف بصفة الإسلام السياسي. ويتعزز هذا الرأي باعتقاد مفاده أن قسماً معتبراً من قياديي الحزب وكوادره يدركون حجم الصعوبات التي يمكن أن يلقاها مشروعهم في بلد عرف منذ الاستقلال، ولا يزال، انقساماً حول تعريف الهوية الوطنية ومدارها ومرجعيتها الثقافية. بل حتى إن إدراكهم هذا يلابس تصورهم عن خصوصية المجتمع التونسي وتموضعه في العالمين العربي والإسلامي.
يمكننا أن نضع في هذا السياق ما يصح اعتباره استبطاناً لجاذبية الهوية الاجتماعية والجهوية في التجربة التونسية. فمن المعروف أن الاتحاد التونسي للشغل تمتع منذ الاستقلال بنوع من القطبية التي جعلته طرفاً لا يستهان بقوته في ترتيب العلاقة بين السلطة والمجتمع. وليس مستبعداً أن يكون الحبيب بورقيبة الذي حكم تونس طويلاً منذ الاستقلال مستلهماً النموذج الأتاتوركي هو بالذات من اعتبر حضور القطب النقابي الفاعل والنشيط ضرورة وطنية، خصوصاً أن هذا الأخير يشترك مع البورقيبية التنويرية والتنموية، وإن من موقع المستقل، في الانتماء إلى حقل الحداثة وقيمها ومبادئها.
قد لا نجد في أدبيات الإسلاميين في الحالة المصرية ولا في حالات البلدان الأخرى الأكثر اضطراباً، ما يعادل الحالة التونسية من الإقرار بقدر من التركيب والتوليف. ونحن نعلم أن الخطاب الإسلامي لا يعير الهوية الاجتماعية اهتماماً كبيراً. فهو يجنح إلى الإحاطة بجملة المكونات والأطياف بوصفها كتلة مرصوصة كجماعة تستند إلى وحدة المعتقد الديني ووحدة المرجعية الثقافية النهائية التي يمثلها ويجسدها الإسلام. ويغلب على الظن أن إغفال الهوية الاجتماعية وكتم الانقسامات الأفقية هما من شروط انتصاب الجماعة عمودياً بالتقابل مع جماعات أخرى، معادية ومنافسة، تتبدى في صورة الجسم المنتصب والجاهز لخوض مغامرات الغلبة الشاملة. والحق أن التخفف من تبعات الهوية الاجتماعية ليس حكراً على خطاب الإسلام السياسي. فهناك ما يعادله في التصورات الشائعة عن الهوية القومية، بل حتى في بعض التصورات النيوليبرالية والشعبوية التي أنتجتها العولمة وخطاب الهوية الثقافية.
الهوية الاجتماعية ليست بالضرورة نسخة عن الهوية أو الانتماء الطبقيين وفق التصور الماركسي المتشدد والمبتذل بعض الشيء. إنها بالأحرى صوغ لتعريف التفاوت والصراعات والتراتبيات داخل المجتمع الواحد وانعكاس ذلك على صورة الصراعات بين كيانات ومجتمعات مختلفة تتواجه في إطار لعبة السيطرة ومقاومتها أو مجاملتها أو التحايل عليها. قد يكون جنوح الخطاب الإسلامي إلى الشمولية هو ما يدفع بكثيرين إلى الاعتقاد بأن هذا الخطاب، السياسي وغير السياسي، هو في نهاية المطاف خطاب واحد ومتماثل في ذاته وإن تنوعت أشكال تعبيره. ينبغي التشديد ههنا على أن وجه التشابه الذي يفصح عنه خطاب الإسلام السياسي في كل بلد من بلدان الانتفاض يجد ما يقابله في الخصوصية التاريخية والترسيمة السوسيولوجية للقوى التي نجحت في تحرير مساحات اجتماعية واسعة من قبضة الإدارات الأمنية والنخب العسكرية والاقتصادية المتربعة على عرش السلطة طوال عقود. وكنا قد أشرنا من قبل إلى حتمية ارتطام الحراك بثقل التاريخ الاجتماعي الخاص لكل بلد.
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة