الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٣١, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
صور من دفتر القادة والقيادة عند العرب - علي العبدالله
لعب القادة التاريخيون، بخاصة في المجتمعات المتخلفة سياسياً واجتماعياً، دوراً مزدوجاً، إيجابياً وسلبياً، تحول بمرور الوقت وعلى خلفية احتكارهم، بقصد أو من دون قصد، كل الأدوار والمواقع والرتب من دور صاحب القرار، إلى محدد السياسات والمواقف، مروراً بمقياس الصواب والخطأ، القبول والرفض، القبيح والحسن... الخ، إلى دور سلبي بالكامل. لكن أخطر ما في ظاهرة القادة التاريخيين ما يثيرونه لدى محبيهم ومحازبيهم من ميل إلى تقليدهم في لباسهم وحركتهم وحديثهم وسطوتهم، كل في دوائره ومحيطه الخاص، وتكرار بعض مفرداتهم أو حركاتهم أو ممارساتهم (نذكر هنا أن مثقفاً ناصرياً اشترى علبة دخان وكبريت وبدأ التدخين بعد سماعه أن عبدالناصر كان يدخن في اليوم الواحد سبعين سيكارة، وأن كثيرين في «حزب الشعب السوري» يستخدمون لازمة قائدهم رياض الترك: ابن العم، خلال حديثهم، وأن واحداً من كوادر الحزب الكبار اقتدى به باعتماد «عميم» اسما له)، وما يعكسونه لدى الجمهور العام من إيمان بشخصهم وتوقع حل كل المشكلات على أيديهم، وما يفرزه ذلك الركون من كسل وسلبية ذهنية وسياسية وضحالة أخلاقية بين هذه الأوساط بفعل الأثر الذي يحدثه هؤلاء القادة في الدولة والمجتمع، في الحزب والمنظمة السياسية، في التعاطي مع المهمات العادية والوطنية، أثر فاعل ومعطل، مساعد ومربك، دافع ومحبط في آن.

مثّل الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر حالة مميزة في التجربة السياسية العربية حيث لم ينجح في امتلاك قلوب المصريين فقط بل العرب كذلك، فقد غدا جزءاً من المعادلة السياسية في معظم الدول العربية منافساً لرؤسائها على قلوب مواطني بلادهم ومحبيهم، ومدخلاً لاكتساب الرضا لدى هؤلاء المواطنين بالإعلان عن قربهم منه وتنسيقهم معه، ما أثار خصومة وعداوة، معلنة أو مضمرة، بينهم وبينه، وقد انعكس كل ذلك سلباً على الحياة الوطنية في الدول العربية وعلى التعاون والتنسيق العربيين، للرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة تعليق طريف في هذا المجال حيث رد على وصف عبدالناصر للشعب التونسي بـ «الشعب العربي في تونس» قائلاً: «شنوا هذا «الشعب العربي في تونس» ياخي هو مسلّفهولي». وبإغلاقه باب القيادة في وجه الساسة المصريين والعرب طوال فترة حكمه، صار الزعامة الوحيدة وقوله الحقيقة والصواب ومخالفته جريمة وخيانة، احتجز التطور السياسي في مصر عبر منع تشكل رأي عام تعددي وتكوينات سياسية شرعية ترفد الفضاء الوطني بتصوراتها ومواقفها، تنخرط في جدل اجتماعي صحي ومثمر، فتشكلت مراكز قوى وتكتلات مغلقة، حتى داخل السلطة، انفجر الصراع بينها لحظة خروجه من المسرح بوفاته، دخلت قوى السلطة في صراعات مريرة أنهت ما كان في التجربة من إيجابيات، كما أطلق، بعد رحيله، تحركين عربيين محمومين، الأول لأخذ موقعه لدى المواطنين العرب، محاولات معمر القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد، وآخر، قادته نظم أميرية وملكية، لتحطيم صورته وتجربته السياسية التي لعبت دوراً محفزاً للتغيير لدى قطاع واسع من مواطني دولها.

الحبيب بورقيبة، أول رئيس تونسي بعد الاستقلال، لم ينل حظوة كبيرة خارج تونس، لكنه غدا فيها كل شيء: محرر تونس من الاستعمار الفرنسي، المجاهد الأكبر، المحامي الأول، محرر المرأة، راعي التعليم... الخ، فأصبح سداً أمام الطامحين، وصار كسب رضاه من قبل الساسة وقادة الأحزاب التونسية ضرورة حيوية للترقي في السلّم الوظيفي والسياسي، ومن طرائف أيامه الأخيرة في الرئاسة أن رئيس وزرائه محمد مزالي حذر المواطنين من نقد بورقيبة أو ذمه في أحاديثهم الخاصة لأن «بورقيبة يدك»، وهو تعبير تونسي يعني أن بورقيبة صاحب كرامة ويستطيع إلحاق الأذى بمن يسيئون إليه في غيابه. ولم يكن الوزير مدير الديوان الرئاسي منصور السخيري يجرؤ على الكلام بحضوره ويريد تسويق نفسه شعبياً في آن، ما دفعه إلى الضغط على مصور التلفزيون التونسي الذي يصور اجتماعات الرئيس ولقاءاته السياسية التي يحضرها مدير الديوان العتيد بتمرير الكاميرا على وجهه، بينما هو يحرك شفتيه للإيحاء بأنه كان يتكلم في حضرة الزعيم، وأن وزير التجهيز والإسكان محمد الصياح أحضر عام 1984 حذاء جديداً وقدمه للزعيم على أنه حذاؤه الذي فقده أثناء مطاردة القوات الفرنسية له على الحدود التونسية الليبية عام 1950.

أما تجربة القائد التاريخي في فلسطين بشخص ياسر عرفات فلها نكهة أخرى، فمع تسليمنا بأن عرفات قد لعب الدور عن وعي واقتدار فامتلك قلوب الفلسطينيين وعقولهم، إلى حد غدا معه «السيد فلسطين»، لخصت مقولة «نختلف معه ولكن لا نختلف عليه»، التي شاعت في الوسط السياسي الفلسطيني، طبيعة علاقتهم به وموقفهم منه، إلا أن سلبيات للحالة برزت وسممت أجواء النضال الفلسطيني عموماً، وأجواء «حركة فتح» بخاصة، دفعت مثقفاً فلسطينياً للقول: «إن جزءاً كبيراً من ارتباكنا وتناقضاتنا وترهلنا سببه أن لنا قائداً تاريخياً»، يقصد ياسر عرفات. وتجسدت سلبيات الحالة في الصراع المرير والطويل بين خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) على موقع الرجل الثاني في «الحركة»، حيث لا مجال للتنافس على موقع الرجل الأول، ما انعكس سلباً على صورة الرجلين، وعلى علاقتهما بعرفات، الذي استثمر الصراع لتقوية موقعه وتوظيف كل المتغيرات حتى السلبية منها لتكريس زعامته ودوره ومنع أي منهما من مزاحمته في تحديد الخط السياسي الفلسطيني، وعلى محيطهما التنظيمي، «القطاع الغربي» و «أمن فتح» على التوالي، وانعكس ذلك أيضاً تنافساً وتضارباً في الأدوار والمهمات، وتفككاً وهشاشة في «الحركة» (كان كاتب هذه السطور قريباً من صلاح خلف في بيت عزاء خليل الوزير، اغتالته قوة إسرائيلية خاصة بقيادة ايهودا باراك في تونس عام 1988، نظر إلى ياسر عرفات وهو يتلقى العزاء من الدبلوماسيين العرب والأجانب، ولاحظ كيف كان يستثمر المناسبة سياسيا ويضيفها إلى رصيده، فالتفت إلى شخص بجواره قائلا: «أتمنى أن أموت بعده بربع ساعة حتى لا يستخدم وفاتي جسرا لصعوده»). لقد أطلق عرفات، برمزيته الفلسطينية ونجوميته العربية والإسلامية، على خلفية الصراع مع الكيان الصهيوني والعمل على تحرير فلسطين، داء التنافس على الاقتراب منه، شهدت التوازنات السياسية في اللجنة المركزية لحركة فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تقلبات وتبدلات متواترة على خلفية نجاح أحدهم بالاقتراب من عرفات وخسارة آخر حظوته لديه، وتقليده في آن (قال عضو اللجنة المركزية لحركة فتح هاني الحسن في حديث له أمام تجمع لكوادر «الحركة» في تونس عام 1985 لو أن «أبو المتعصم»، وهو عميد في جيش التحرير الفلسطيني حيثيته الوحيدة أنه انشق عن الجيش الأردني عام 1971 بعد مجازر أيلول (سبتمبر)، والتحق بالثورة الفلسطينية، مشى مع غورباتشوف، لاعتقد أن غورباتشوف هو من يمشي معه).

لا تختلف تجربة القادة التاريخيين للأحزاب العربية (أنطوان سعادة، خالد بكداش، جمال أتاسي، فؤاد مرسي، حسن الترابي، راشد الغنوشي، لويزا حنون، حمة الهمامي، مرشدي تنظيم الإخوان المسلمين) كثيراً عن تجربة القادة السياسيين بإيجابياتها وسلبياتها فقد بقوا في مواقعهم القيادية من دون تغيير أو تعديل، لم يزحزحهم عنها إلا الموت، حاول بعضهم مد دوره بعد مماته عبر توريث الموقع لابنه من بعده، أداروا أحزابهم وفق اجتهاداتهم وتصوراتهم الخاصة واعتباراتهم الشخصية من دون تقيد بالمنطلقات الفكرية والسياسية وبتجاهل تام للأطر التنظيمية.

* كاتب سوري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة