السبت ٢٣ - ١١ - ٢٠٢٤
بيانات
التاريخ:
آذار ١٣, ٢٠١٨
المصدر:
جريدة النهار اللبنانية
أي استراتيجية فلسطينية؟ مقاومة مدنية غير عنيفة بما فيهاالعصيان الهجومي - خليل هندي
أي تفكير في استراتيجية فلسطينية ينبغي أن يستند إلى مرتكزات محددة منها:
- التشاؤم الاستراتيجي.
- النفس الطويل المبني على النظر إلى بعيد وربما إلى مدى تاريخي.
أما التشاؤم الاستراتيجي فيفرضه عناد الوقائع التي أوردناها في ما سبق والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
- الاستراتيجية الإسرائيلية ثابتة متماسكة لا تتغير بتغير الائتلافات الحاكمة، وهي تقوم على السيطرة الكاملة على فلسطين كلها من دون تحمل المسؤولية عن سكان الأراضي المحتلة. وليس الحفاظ على الوضع الراهن والاستمرار في فرض وقائع على الأرض بدأب واطراد ناجماً عن افتقار إلى الرؤية التاريخية أو إلى عقم في التفكير الاستراتيجي، بل عن استراتيجية واعية تقوم على إرادوية هي نفسها نتاج التجربة التاريخية الإسرائيلية الناجحة من وجهة النظر الصهيونية.
- جنوح المجتمع الإسرائيلي إلى الوحشية عملية تاريخية مديدة مستمرة، لا تشمل المجتمع الإسرائيلي وحده، بل أيضاً الصهيونية واليهودية، وهي ناجمة عن المنطق الداخلي للصهيونية وتدفع بالمجتمع الإسرائيلي والصهيونية إلى المزيد فالمزيد من الاستعلاء العرقي والتعصب والانغلاق. ومن هنا فإن تصور إمكان قيام معسكر سلام إسرائيلي قادر في القريب العاجل وحتى في الأمد المتوسط ليس إلا تعلقاً بحبال الوهم.
- نتائج العملية السلمية (أوسلو) كارثية، فقد تعمق الاحتلال واتسع الاستيطان، ونجحت إسرائيل في:
- جعل الاحتلال من دون كلفة لها، بل ربما مثمراً اقتصاديا.
- عزل جمهرة الإسرائيليين عن تداعيات الاحتلال.
- كيّ وعي قطاعات واسعة من الفلسطينيين في المناطق المحتلة بعبثية المقاومة من جهة وبرهاب الخوف من الفوضى من جهة أخرى (تجربة الانتفاضة الثانية).
- جعل استمرار الوضع القائم، وخاصة استمرار وجود السلطة الفلسطينية، مصلحة راسخة لقطاعات واسعة من الفلسطينيين في المناطق المحتلة (مع أن الدافع والكبرياء الوطني يتنازعانها). وما كان للاحتلال أن يستمر 50 عاماً بالاعتماد على القمع والقسر وحدهما.
- جعل منظومة السيطرة على المناطق المحتلة محكمة ومنتشرة تشمل كافة مناحي الحياة.
- المناورة والمداورة حتى أصبحت السلطة الفلسطينية، بصرف النظر عن النوايا السليمة، جزءاً من منظومة السيطرة أو تلعب دور البلدية الكبرى، بينما تمسك إسرائيل بزمام المصائر كلها.
- وضع الفلسطينيين في "فخ مآزق استراتيجية"، بمعنى أنه تترتب على كافة خيارات التغيير الممكنة تكاليف هائلة، فتصبح المراوحة في الوضع الراهن "موقفاً عقلانياً".
- ليس المجتمع الدولي، وعلى رأسه أمريكا، مهتماً بحل النزاع، بل فقط باحتوائه. وحتى لو افترض العكس، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه قادر على فرض حل (قبرص، كوسوفو، البوسنة، كشمير). ومن هنا فإن الاعتقاد بأن التوجه إلى أمريكا والمجتمع الدولي بمناشدات أخلاقية أو حتى بسجالات من نوع أن النزاع يهدد المصالح الأمريكية أو يهدد السلام العالمي يمكن أن يؤدي إلى حل عادل واهم في أحسن الأحوال، وربما كان مضللاً عن قصد.
هكذا يتضح أن السعي إلى حل الدولتين بالتفاوض أو باستنهاض همة المجتمع الدولي أصبح محكوماً بالفشل. فبالنظر إلى التحولات التاريخية التي مرت وتمر بها إسرائيل/الصهيونية/اليهودية، لا يمكن حتى مجرد تصور نشوء اصطفاف للقوى في إسرائيل يمكنها من قبول دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة حتى على جزء من الأرض المحتلة عام 1967. كما أن استشراء الاستيطان وأعداد المستوطنين باتت تستثني قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وليس افتراض إمكان إخلاء المستوطنات، أو بعضها، من ضمن صفقة ممكنة، واقعيا. والنتيجة إذاً هي أنه لا حل في القريب أو حتى في الأجل المتوسط يمكن أن يلبي الحد الأدنى من المطامح الفلسطينية، وأن اللهاث خلف سراب حلول يتم التوصل لها بالتفاوض أو باستنهاض همة المجتمع الدولي قد لا يؤدي سوى إلى تيسير التنفيذ التدريجي للاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على السيطرة المحكمة على فلسطين كلها.
ما دام الأمر كذلك، فإن هناك حاجة إلى إعادة توجيه الجهد الفلسطيني نحو الأجل الأبعد وربما التاريخي، من دون أن يستثني ذلك السعي إلى تحقيق أهداف وسيطة أو استيعاب تغيرات في المضمار الفلسطيني أو العربي أو الدولي قد تنشأ وتكون لها آثار استراتيجية.
وإذا صح أن حل الدولتين أصبح محكوماً بالفشل، فهل يعني ذلك التخلي علناً عن هذا الخيار؟ ليس بالضرورة. فمطلب إنهاء الاحتلال (حل الدولتين) يحظى بدعم واسع ومتنام دولياً وبين الشعوب في العالم، ونزع الشرعية عن الاحتلال ممكن ومتيسر على مستويات أوسع وأعلى بكثير مما لأي مطلب آخر قد تشتم منه محاولة لنزع الشرعية عن الجماعة الإسرائيلية أو حتى عن إسرائيل كدولة. هكذا، بينما يجدر أن ترتكز الاستراتيجية الفلسطينية إلى أن حل الدولتين محكوم بالفشل، قد لا يكون من الحكمة، ولفترة طويلة نسبياً، التخلي العلني عن مطلب إنهاء احتلال 1967، وذلك من منظور رفع تكاليف الغطرسة الإسرائيلية بفرض عزلة دولية نسبية على إسرائيل.
صحيح أن هذا الموقف الملتبس قد يعيق التعبئة الجماهيرية، لكنه يغني عن الدخول في نقاش يبدد الجهود ويستثير الخلافات عن المفاضلة بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة (الثنائية القومية أو الديموقراطية العلمانية أو الفيدرالية أو الكونفدرالية)، ما دام تحقيق أي منهما، إن أمكن، يتطلب نضالاً عسيراً طويل الأمد.
وإذا صح أن السلطة الفلسطينية تلعب دوراً مركزياً في منظومة السيطرة، فهل يستتبع ذلك النضال لإسقاط هذه السلطة أو المطالبة بحلها؟ مرة أخرى، ليس بالضرورة. فقد لا ينجم عن حل السلطة أو انهيارها تولي سلطات الاحتلال المسؤولية المباشرة عن السكان ليصبح هناك اشتباك مباشر بين الناس والاحتلال من دون حجاب عازل. على العكس، الأغلب أن تترك إسرائيل المناطق الفلسطينية لتسودها الفوضى، أو تعمد إلى خلق إمارات عشائرية محلية لتكون ألعوبة في يدها وتسيطر بواسطتها على مقدرات الناس (يشار إلى ذلك في بعض الكتابات الإسرائيلية على انه حل الإمارات السبع).
بالمقابل ليس من المصلحة الفلسطينية على المدى البعيد ترك الأمور على حالها إلى أجل غير مسمى. ولذا قد تكون هناك ضرورة لتصورات خلاقة. وإني لأعتقد أن بالإمكان تطوير فكرة النضال من أجل دفع السلطة إلى أن تصبح بالفعل "سلطة في الأسر"، وذلك بان تمتنع تدريجياً عن التعامل مع الاحتلال في كافة المجالات، لتركز فحسب على ضمان الأمن الفردي للناس، وربما توفير بعض احتياجاتهم المعيشية الأساسية، في الوقت الذي تقود فيه نضالهم الفعلي ضد الاحتلال. ولا شك أن ذلك يتطلب تضحيات جسيمة من السلطة ومن الناس. ومن هنا القول بأن التوصل إليه يقتضي نضالا.
صحيح أن هذا أيضاً موقف ملتبس. لكن له مزاياه. فهو يقلص احتمالات أن ننتهي إلى حل الإمارات السبع، الذي يعتقد البعض أنه ما تخطط له إسرائيل إذا ما أبدت السلطة تعنتاً أو أنه على الأقل السيناريو المفضل لديها في حالة انهيار السلطة. وهو من جهة ثانية، يقلل احتمالات نشوب نزاعات فلسطينية داخلية قد تصبح عنيفة، إذ يمكن تصور أن تواجه السلطة بالعنف محاولات إسقاطها إن هي ارتأت أن هذه المحاولات أصبحت جدية إلى حد ما، مثلها في ذلك مثل أية سلطة. كما أنه يطمئن الناس إلى أمنهم الشخصي وإلى أنهم لن يواجهوا الفلتان الأمني مرة أخرى، ويمكّن من متابعة ملاحقة إسرائيل في المحافل والمحاكم الدولية.
يشير كل ما سبق إلى أن النضال الفلسطيني محكوم بأن يكون طويل النفس وطويل الأمد. فما هي السمات الغالبة المناسبة لنضال كهذا؟ يتعلق الأمر بالنجاعة، مع إدراك أن كافة أشكال النضال مشروعة. فإسرائيل تملك تفوقاً هائلاً مدمراً في ساحة العنف والعنف المقابل. والأغلب أنها اختارت جرّ الطرف الفلسطيني في المواجهة عام 2000 إلى هذه الساحة عمداً، إدراكاً منها لهذا التفوق. ويفترض النضال العنيف أن بالإمكان على مدى قصير أو متوسط إضعاف ركائز قوة المحتل وكسر إرادة الاستمرار لديه. أما في حالة فلسطين، فيبدو أن العنف، وخاصة ضد المدنيين، يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ يمتن التماسك الاجتماعي الداخلي لإسرائيل ويدفع بالمجتمع الإسرائيلي ككل إلى مزيد من التوحش ويستنفر قوى الدعم الخارجي لإسرائيل. من هنا ضرورة النظر جدياً في تبني مقاومة مدنية واسعة النطاق تنتظم الشعب الفلسطيني كله وتعيد اللحمة التي تكاد تكون مفقودة بين مكوناته (الشتات، الضفة، القطاع، خلف الخط الأخضر)، ويكون من بين أسمى أهدافها الحفاظ على الهوية الجمعية للشعب الفلسطيني وعلى قيمه التحررية الإنسانية. كما يؤمل أن تجعل هذه المقاومة الشعب الواقع تحت الاحتلال أقل فأقل خنوعاً ليصبح عصياً على السيطرة أكثر فأكثر. وعندئذ يخسر المحتل سلطته حتى لو ظلت قوته العنفية قاهرة.
في هذا المنظور، لمسألة اللحمة بين مكونات الشعب الفلسطيني المختلفة أهمية مركزية. فلا شك في أن سبعين عاماً من التشرذم أدت إلى تكوّن مجموعات متنوعة لكل منها اهتماماتها وشواغلها وقضاياها المباشرة حتى في الأمد المتوسط، وإن كانت تُجمع على هدفي التحرر والعودة. وإذا كان لا بد لاستراتيجية متماسكة من أن تعين في كل مرحلة تاريخية الهدف المركزي للنضال، وهو بلا شك في المرحلة الراهنة صدّ ثم دحر الاحتلال، وإذا كان ذلك يعني أن يحتل أحد مكونات الشعب الفلسطيني الصدارة في هذا النضال وأن تتوجه الجهود لدعمه، فإنه ينبغـي من جهة ألا يؤدي إلى شعور المكونات الأخرى أنها مهمشة، ويعني من جهة ثانية ألا تُغيّب حقيقة أن هذه المكونات الأخرى يجب أن تتحمل مسؤولية دعم مركز ثقل النضال وفي الوقت نفسه متابعة نضالها لتحقيق أهدافها المباشرة والمتوسطة الأمد الخاصة بها. وفي هذا السياق، يبدو أن الإعجاب بصمود أهلنا وراء الخط الأخضر وبالحكمة والدراية السياسية التي تبديها قياداتهم، أو بعضها على الأقل، قد أدى بكثيرين إلى إحلال الرغبات محل الوقائع، فباتوا يتصورون لهم دوراً لا يستطيعونه ولا يأخذ بالاعتبار وضعهم الخاص الذي يحتم عليهم أن يضعوا لنضالهم أهداف المساواة وتغيير طبيعة الدولة، في الوقت الذي يمدون فيه النضال ضد الاحتلال بالدعم وبالفهم الأعمق لإسرائيل والصهيونية. وبالمثل، ربما لا يجوز أن يترك بعض أهلنا في الشتات من دون دور، غير، مثلاً، انتقاد السلطة، في الوقت الذي يواجهون مسائل ومشاكل ينبغي النضال من أجلها (الحقوق المدنية وتحسين الظروف المعيشية في لبنان، على سبيل المثال).
ويميز دارسو حركات المقاومة غير العنيفة خمسة من أشكالها:
- المقاومة الرمزية: الإيماءات والإشارات والعلامات سعياً إلى التعبير عن التمسك بالقضية وقيمها.
- المقاومة السجالية: نشر الرواية الوطنية وتعهدها بالرعاية والتعبير عن الاحتجاج والتشجيع على متابعة النضال.
- المقاومة الدفاعية: حماية من هم في خطر للمحافظة على القوى المناضلة وعلى قيم التضامن الإنسانية التي يتهددها الاحتلال بالخطر.
- المقاومة الهجومية: سعياً إلى إحباط المحتل، كالإضرابات والتظاهرات وأشكال العصيان المدني، من مثل الامتناع عن دفع الضرائب.
- المقاومة البناءة: سعياً إلى تحدي النظام الذي يفرضه المحتل ببناء مؤسسات بديلة تحافظ على الهوية الجمعية.
ومن الواضح أن الشكلين الأخيرين، وهما الأفعل والأكثر تقدماً، إشكاليان في الحالة الفلسطينية. إضرابات وعصيان مدني ضد من، وامتناع عن دفع الضرائب لمن؟ وكيف يمكن في ظل الاحتلال بناء مؤسسات تساهم في الحفاظ على الهوية الجمعية، من دون الوقوع في فخ السلام الاقتصادي أو "التطور المنفصل"؟ تلك تحديات لا بد من التصدي لها. على أن التحديات لا تقتصر على ذلك، بل تتخطاه إلى ضرورة تطوير أجوبة عن أسئلة كثيرة من بينها:
• ما هي القوى المؤهلة لقيادة النضال الطويل الأمد؟ وهل من دور للفصائل؟
• ما هي آليات ردم الشرخ بين العلمانيين والإسلاميين (في البداية بين فتح وحماس) وتسوية النزاعات والاختلافات؟
• كيف يمكن أن يستعاد الاشتباك بين الخاضعين للاحتلال وبين قوات وقوى الاحتلال كي تصبح للاحتلال أكلاف ويجري رفع هذه الأكلاف باستمرار؟
• كيف يمكن كسر التعاون (الطوعي والقسري) والتعامل مع الاحتلال في الضفة والقطاع؟ وما هي آليات ذلك؟ والأهم، ربما، كيف السبيل إلى كسر عادات الطاعة التي تكونت لدى الناس خلال مدة طويلة؟
• كيف يمكن تعزيز جهود نزع الشرعية عالمياً عن احتلال 67 أولاً ثم في مرحلة لاحقة عن المشروع الصهيوني؟ وما دور حركة المقاطعة والعقوبات في ذلك؟
(رئيس جامعة بيرزيت السابق)
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
وقف نار غير مشروط في غزة بوساطة مصرية
تل أبيب ترفض التهدئة وتستدعي قوات الاحتياط
مصير الانتخابات الفلسطينية يحسم اليوم
استطلاع: «فتح» تتفوق على «حماس» والبرغوثي يفوز بالرئاسة
المقدسيون مدعوون للانتخابات عبر مراكز البريد
مقالات ذات صلة
أيضاً وأيضاً: هل يتوقّف هذا الكذب على الفلسطينيّين؟ - حازم صاغية
حرب غزة وأسئلة النصر والهزيمة! - أكرم البني
إعادة اختراع الإسرائيليّة والفلسطينيّة؟! - حازم صاغية
لا قيامة قريبة لـ«معسكر السلام» - حسام عيتاني
... عن مواجهات القدس وآفاقها المتعارضة - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة