ليس جديداً القول إن السوريين لا يملكون زمام الصراع الذي يخوضونه، صفحتهم كفاعلين بدأت تُطوى منذ دخلت طلائع الميليشيات الشيعية المساندة للنظام، لتتلوها تنظيمات جهادية عابرة للحدود وقيادات عسكرية قادمة من جبال قنديل أو من المناطق الكردية في تركيا.
في الوقت ذاته، صار الانخراط الإقليمي والدولي على أشدّه، بينما يعلن معظم هذه القوى أنه يريد للسوريين تقرير مصيرهم بأنفسهم، والطريف أن هذه الكليشيه لم تفقد صلاحية تكرارها على رغم التلويح بتقسيم البلد إلى مناطق نفوذ حتى أجل يصعب تخمينه.
لكن طغيان العامل الخارجي لا يكفي وحده لتفسير توقف الصراع السوري عند نقطة بدايته قبل نحو سبع سنوات، بل لعل هذا الطغيان يفسّر جانباً مهماً من طبيعة الصراع الداخلي. إذ يكون من أهم ملامح الانقسام المجتمعي وجود انقسام حاد في السياسات الخارجية، ويكون لكل طرف من الأطراف توجهاته الخارجية المتضاربة كلياً مع الأطراف الأخرى أو بعض منها.
من المعتاد، في حالات مشابهة لحالتنا، رمي الملامة على الخارج الذي حوّل القوى الداخلية المتصارعة إلى أدوات، وجرّدها تالياً من استقلالها الوطني. في أقصى الحالات، تتخذ هذه المقولات بعداً طهرانياً لا يكتفي بتجاهل الانقسام المجتمعي الحاد، بل يتجاهل أيضاً تسميات مخففة من قبيل نقص مناعة المجتمع، والتحول إلى أدوات في «صراع الآخرين» يصبح نقص مناعة فردية لا تحظى بتمثيل عام.
في الواقع كان الوصول إلى هذه النتيجة شبه حتمي، منذ صوّر تنظيم الأسد الثورة ضده كثورة سنية بينما هو في موقع حامي الأقليات، من ثم صار منطقياً التخويف من عمقها الديموغرافي «العربي السني» والاستنجاد بمن ليسوا كذلك. هجاء العروبة في بروباغندا الأسد أتى مكملاً ضرورياً، بخلاف غطائه البعثي السابق الذي لم يعد يتوافق مع القسمة الجديدة. الخارج كان موجوداً فعلاً منذ ذلك الوقت، ووجوده معطى يستوجبه انقسام لا عودة عنه، ولا يمكن ردمه نهائياً إلا بسحق وجود الآخر بكل ما لهذا التعبير من معنى.
تفاقم التدخلات الخارجية، من خارج الانقسام الأول، يمكن توقعه كلما تحول بلد إلى ساحة لتصفية حسابات متعددة ومتشابكة. إلا أن تفاقمها يعكس على نحو خاص عدم إمكانية العودة إلى الوراء، ويعكس على الأرجح تعميق الانقسام الأصل وعدم وجود رغبة في ردمه. ما يمكن ملاحظته بسهولة أن مجموع الخطابات السائدة في مقلب الموالاة لم يتغير خلال سبع سنوات، ولم يتغير معها مجموع الخطابات في مقلب الثورة، بينما كانت خطابات الحرب بطبيعتها أقل تشذيباً، وأقل حساسية إزاء إظهار الانقسامات بلا تزويق.
في اللوحة الإجمالية للصراع، لم تظهر تحالفات أو اصطفافات جديدة تمكّن من الحديث عن ثمرة ما. لغة تنظيم الأسد لم تتغير عما كانت عليه في اليوم الأول للثورة، وكذلك هي لغة مواليه، أما الكتلة الصامتة فتكفّلَ العنف والوحشية بجعلها أكثر تمسكاً بصمتها وأمانها الشخصي.
انقسامات المعارضة بقيت على ما كانت عليه منذ الأشهر الأولى للثورة، على رغم بعض التغييرات في هياكلها، أو حتى اقتحامها بهياكل جديدة أقرب إلى الموالاة.
خطاب المعارضة، بتبايناتها، لم يختلف عما كان عليه في بدء الثورة، ويجوز فهم هذا الثبات على أرضية عدم تحقق أي تقدم يؤدي إلى تغيير في الرؤى. غير أن الثبات يعكس أيضاً قصوراً فادحاً عندما تصبح الشعارات الأولى للثورة مفارقة لانقسام يتعاظم، ولمعطيات تتداخل فيها مختلف أنواع الاحتلالات، فتصبح في موقع الحلم بدل موقع الطموح الذي كانت فيه.
اتفاق قسم معتبر من المعارضة على عمومية موضوع التحول الديموقراطي لا يمنح الأخير أي زخم فعلي، وهذا لا علاقة له بمخاوف كاذبة أو صائبة لمن هم في الموالاة. هو يتعلق أولاً بغياب اجتماع سوري يُبنى عليه التحول المنشود.
في الأمثلة المشابهة كان تبريد الصراع هو الحل، هذا ما يعنيه نظام المحاصصة الذي يشرعن الانقسام، ويشرعن عدم وجود سياسة وطنية إذ يترك لكل كتلة هامشها المستقل للعلاقات الخارجية، مع ترك الباب مفتوحاً لقوى الخارج كي تتقاسم النفوذ أو تتصارع عليه. وفي حالات أبعد كانت الديكتاتورية بمثابة مرحلة انتقالية يُسحب فيها العنف من الشارع ليعود احتكاره للدولة، إلا أن الخلط السائد في المنطقة بين الديكتاتورية والاستبداد يرجح كفة الثاني منهما، ويعيد الأمور إلى نموذج الاستبداد كما نعرفه، أي النموذج المضاد بطبيعته للاجتماع الوطني وينكر الانقسامات والعصبيات بينما يعمل على تفاقمها.
الحالة السورية لم تعد تحتمل إعادة إنتاج الاستبداد، على رغم كل ما يشاع بين الحين والآخر عن إعادة تدوير الأسد، ولا يبدو أنها تحتمل محاصصة مقبولة يُحتكم فيها إلى المعيار العددي. هذا قد يكون أحد أوجه الاستعصاء الحالي، ففي الأفق القريب لا تلوح فرصة سحرية لابتداع نموذج سوري مختلف.
الكلام عن تحول ديموقراطي يكون مدخلاً إلى الحل غير موجود في حسابات القوى الفعلية على الأرض، مثلما لا وجود له في حسابات القوى الخارجية سوى على سبيل رفع شعارات مخاتلة، أو على سبيل رفع العتب.
ربما يكون الأقرب إلى الواقع استقرار الوضع وفق مناطق نفوذ، ذلك سيخفض منسوب القتل بموجب تفاهمات أو خطوط تماس دولية وإقليمية، وسيكون بديلاً عن وجود قوات حفظ سلام دولي لن تأتي من دون مظلة من الانتقال السياسي. عملياً، كلما استمر هذا الوضع فإنه سيؤدي إلى تمتين ارتباط كل منطقة نفوذ بعمقها الخارجي، واضمحلال المصالح والروابط مع المناطق الأخرى، وضمن حالة الاستنفار العامة سيبقى الانقسام الأصلي مهيمناً على التناقضات الأصغر في كل منطقة.
بعد عقد ونصف على إسقاط صدام حسين، لم يسر العراق في طريق التحول الديموقراطي متجاوزاً الانقسامات الطائفية، والحربُ الأهلية اللبنانية الصامتة تفتتح جولة جديدة بهيمنة حزب الله على الدولة، ولا دلائل على أن الشيعية السياسية ستكون أوفر حظاً من المارونية السياسية. لم ينتج الصراع السوري احتمالات أفضل مما هو موجود على الجانبين، وإذا بقيت الإرادة الدولية على حالها فقد لا يكتفي بأسوأ ما فيهما. |