استأثر الوضع التونسي هذه السنة باهتمام واسع في الصحافة العالمية، ولم تمض الذكرى الرسمية للثورة (14 كانون الثاني/ يناير) من دون أن تحبّر مئات المقالات التي اتجه أغلبها إلى تقييم سلبي، وأحياناً شديد السلبية، لما آلت إليه الأوضاع. والملاحظ أنّ وسائل الإعلام الغربية التي كانت سابقاً متعاطفة وابتدعت مصطلحات رومانسية من صنف «الربيع العربي» و «الاستثناء التونسي»، انضمت بقوّة إلى المواقف النقدية، حتى اشتكى منها الرئيس التونسي في كلمة ألقاها في أحد الاجتماعات.
الحقيقة أنّ ذكرى الثورة تميزت على مدى السنوات الماضية بتواصل الاحتجاجات ورفع المطالب ذاتها، شعوراً من فئات عدّة بأنّها لم تستفد من المسار الذي بدأ سنة 2011، غير أن المتغيّر هذه السنة هو انتقال حالات الغضب والاحتقان من الداخل إلى العاصمة، ومن الطبقات الفقيرة إلى الطبقة الوسطى التي تضرّرت من إجراءات التقشف ورفع الأسعار والضرائب، ولهذين السببين كانت الاحتجاجات أكثر بروزاً أمام الإعلام العالمي. وإذا راجعنا مسار الحركات الاحتجاجية في تونس في العقود الأخيرة، من الصدام العنيف بين السلطة والنقابة العمالية في كانون الثاني 1978، وأحداث قفصة في كانون الثاني 1980، وثورة الخبز في كانون الثاني 1984، إلى ثورة كانون الثاني 2011، رأينا أن الاحتجاجات تبدأ دائما في المناطق الداخلية لتنتهي إلى العاصمة، وأن انفجارها يحصل مع بدايات السنوات بسبب الضغط الجبائي واليأس من طرح الحلول للمشكلات. وعليه، من الخطأ اعتبار ما يحصل مع كل ذكرى للثورة، وفي الذكرى الأخيرة خاصة، مجرّد أمر عابر، بل هي تعبيرات عن تراكمات لا بدّ من السعي الحثيث لمعالجتها تفاديا لانفجارات أعظم.
سياسياً، حققت تونس نجاحات لا يمكن إنكارها، منها التخلّص من النظام السابق ثم من حكم الإسلاميين بلا عنف، ووضع دستور ومؤسسات متفق حولها، وتنظيم دورتين انتخابيتين مقبولتين دولياً، على رغم بعض الخروقات والمشكلات، وتوفّر مقدار عال من حرية التعبير والعمل السياسي والجمعياتي. هذه المسائل قد تبدو بسيطة اليوم للتونسيين لكن أهميتها تتأكد مقارنة بالتاريخ الطويل أو بتجارب بلدان الثورات الأخرى.
لكن من دون أن نخرج عن المجال السياسي، لا بدّ أن نضيف عناصر أخرى مخيفة، منها أن الهندسة السياسية للدولة لا ترتكز حاليا على المؤسسات المنتخبة وما تضمنه الدستور بمقدار ما ترتكز على شخص رئيس الدولة وخبرته وما يحظى به من مقبولية لدى طيف واسع من المجتمع السياسي، ما يعني أنه في حالة غيابه، وهو الذي يناهز التسعين، لن يكون مؤكّداً أن تعمل مؤسسات الدولة بالحدّ الأدنى من التجانس. وذلك يعود إلى أنّ هذه المؤسسات مرتبطة بوضع الأحزاب. ومن المفارقات أنّ الحزب الذي أسسه الرئيس يظلّ الأول في مستوى الشعبية، وفق عمليات استطلاع الآراء، لكنه حزب مفكّك لم ينجح في الخروج من أزمته الداخلية منذ تخلي الباجي قائد السبسي عن رئاسته بمقتضى أحكام الدستور التي تمنع على رئيس الدولة الانتماء الحزبي.
أما الحزب الثاني وهو «النهضة»، فأكثر انضباطاً، لكن انضباطه لا يعود إلى وضوح خطه السياسي، بل إلى رغبته في البقاء في السلطة بأي ثمن. فقد تحالف في الحكم مع الدكتور منصف المرزوقي ثم مع الباجي قائد السبسي، وهما طرفا نقيض في السياسة، وأصبح في طليعة المناهضين للاحتجاج الشعبي، وهو الذي بنى كلّ تاريخه على الاحتجاج، ويمكن أن يغيّر تحالفاته ومواقفه مستقبلاً إذا اقتضت مصلحته ذلك. أما بقية الأحزاب، فذات طبيعة احتجاجية أو أنها نخبوية، فلا يمكن أن تكون مؤثرة خارج التحالف مع أحد الحزبين الكبيرين.
وإذا صحّت في الوضع السياسي استعارة الكأس الممتلئ نصفها والفارغة في النصف الثاني، إذ يُرى بطريقتين، فإنّ الوضع الاقتصادي لم يحقّق نجاحات تذكر، ولم تخرج البلاد من العوائق التي ورثتها عن العهد السابق، وأبرزها نسبة البطالة المرتفعة وبطء نسق النمو والتفاوت الحادّ بين الساحل والداخل، بل أضيفت إليها مشكلات جديدة كالارتفاع المشطّ لنسبة المديونية وانهيار العملة المحلية وبلوغ التضخم أرقاما قياسية، عدا الفساد المالي الذي زاد استشراءً وتعقيداً في آلياته. وبصفة عامة، تشير كلّ تقارير المنظمات الدولية إلى تراجع حادّ للبلاد التونسية في مجال التنمية والاستثمار ومستوى العيش ومؤشرات مقاومة الفساد. ولا شكّ في أن حرية التعبير والعمل السياسي لن تعني الكثير بالنسبة إلى آلاف الأشخاص الذين لا يعملون ولا يقدرون على توفير الحدّ الأدنى من مقومات العيش لأنفسهم ولأسرهم.
تلتقي أغلب التيارات السياسية اليوم على التسليم بهذا الحصاد المتواضع للثورة التونسية، باستثناء الإسلاميين الذين يخلطون بين نجاحهم في الاستفادة منها ونجاح الثورة ذاتها. وربما أيضا لأنهم معنيّون بالترويج إقليميا للسيناريو الأميركي السابق القائل بضرورة تحالف الإسلاميين والعلمانيين، مع أنّ مشكلة تونس ليست الإسلام ولا العلمانية وإنما الفقر والبطالة والتنمية وإدماج المهمشين، وهي قضايا غير مدرجة في أدبيات الإسلاميين وخطاباتهم إلاّ لغاية التحريض والتوظيف. وعلى سبيل المثال، كان برنامج حزب «النهضة» المقدم بعد الثورة قد وعد بتوفير أكثر من نصف مليون خطة عمل، ولم يتحقّق شيء من ذلك أثناء حكمه، ثم عهد بوزارة العمل إلى أمينه العام بعد انتخابات 2014، على رغم هزيمة الحزب، فلم يحقّق ولو جزءا صغيرا من الموعود، إلّا أنّ كلّ من يذكّر اليوم بهذه المعطيات يتهم بالحنين للعهد السابق أو معاداة الثورة أو العمالة لمخطّط خارجي يهدف إلى إفساد التجربة التونسية.
من الضروري اليوم فتح باب النقد الموضوعي للتجربة، خارج المواقف النمطية وبعيداً من الأحكام المسبقة، وفي إطار الاعتراف بالسلبيات والإيجابيات في الآن ذاته، مع الإقرار بالهوّة الواسعة التي تفصل بين الرغبات والآمال التي أعلنت سنة 2011 والواقع القائم اليوم. ولا تحتاج تونس الآن إلى ثورة ثانية، فضررها سيكون أكبر من الأولى، بل تحتاج إلى التخفيف من ضغط الأحزاب وضغط السياسة عامة، وعمليات المحاصصة الحزبية التي أضرت بالبلاد، وتوفير برنامج اقتصادي واقعي، تضعه وتنفذه كفاءات وطنية مشهود لها في المجال الاقتصادي، بدل ممثلي الأحزاب الذين عهدوا بأمر الاقتصاد لصندوق النقد الدولي ثم باتوا يواجهون اليوم نتائج قراراته وإملاءاته. |