يبدو أن القوى السياسية العراقية المركزية تطبق قاعدة كانت مشهورة في إيران أوائل عهد الثورة الإسلامية، حيث كان الخميني وأنصاره وقتها يتبعون قاعدة «يجب أن نقول ما يجب قوله، وأن نفعل ما يجب فعله». هذه القاعدة التي نقلها السياسي الإيراني صادق قطب زاده (قُتل بالرصاص في ما بعد) عن تلك السنوات، كانت تقوم على ركيزتين: أولى خطابية ينادي عبرها أنصار الخميني بالمساواة والمواطنة ومحاربة الفساد والحرية وحقوق الإنسان، وأخرى تنفيذية تتمثل في اغتيالات وتصفيات ضمن الجيش وأجهزة الأمن والتيارات السياسية المنافسة. وهو سلوك سمح للخميني ومؤيديه بأن يقضوا على منافسيهم السياسيين الذين شاركوا في الثورة ضد الشاه، من يساريين وقوميين وليبراليين وعرب وأكراد، وأن يُنشئوا مؤسسات حكم اقتصادية وأمنية وعسكرية بديلة، أكبر من مؤسسات الدولة الرسمية وأقوى نفوذاً منها.
منذ ستة أشهر تفعل الحكومة العراقية ذلك بالضبط. تملأ الدنيا بالخطابات الرنانة عن الأخوة والشراكة والدستورية والوحدة الوطنية مع الأكراد. لكنها في الوقت عينه تشن حرباً لكسر إرادة إقليم كردستان وكل المكون الكردي في البلاد. تغلق المطارات الجوية لقطع علاقة وتفاعل الإقليم مع العالم الخارجي، وحين ترد حكومة الإقليم بأنها تقبل بإشراف موظفين من الحكومة المركزية على إدارة هذه المطارات، لا تبالي الحكومة وتحمّل الملف طلبات أكبر، فتفرض على جميع زوار الإقليم أن يمروا عبر بغداد، ثم تفرض عليهم غرامات مالية. تدفع المليشيات الطائفية إلى إثارة القلاقل بحق المواطنين الأكراد في المناطق المتنازع عليها، وفي هذا السياق وصف تقرير لمنظمة العفو الدولية ما جرى في بلدة طوزخورماتو بأنه «تطهير عرقي»، ثم تماطل حد السأم في إعادة الأكراد إلى مناطقهم. على أن كل تلك المضايقات تبقى تفصيلية مقارنة بأمرين جوهريين في «الحرب الباردة» التي تخوضها الحكومة المركزية ضد الإقليم:
أولاً، تقطع حقوق الإقليم المالية الدستورية، المتمثلة بنسبة 17 في المئة من الموازنة العامة. فمنذ الأزمة التي نشأت عام 2014 عقب الخلاف الدستوري على حقوق الإقليم في تطوير بنيته النفطية، قطعت الحكومة العراقية تلك النسبة، وعرقلت التدفقات المالية والتعاملات التجارية مع الإقليم. وعندما أعلن الإقليم أن صادراته النفطية ستذهب إلى الخزينة العامة، أصرت الحكومة المركزية على أنها الوحيدة المخولة إدارة شؤون النفط، وأنه ليس للإقليم سلطة على حقوله، وهو مبدأ محل خلاف دستوري، لأن الدستور العراقي ينص على أن استثمار الثروة النفطية تقوم به الحكومة المركزية بالتعاون مع الحكومات المحلية والإقليمية.
كانت الحكومة المركزية تدفع تلك النسبة بعدما تستقطع جزء وافراً منها (حوالى 29 في المئة) تحت لافتة «المصاريف السيادية»، الأمر الذي كان يعني أن حصة الإقليم لم تكن تتجاوز فعلياً 13 في المئة من الموازنة العامة. في مشروع موازنة العام المقبل، تسعى الحكومة المركزية إلى خفض حصة الإقليم إلى 12.76 في المئة، وستقتطع منها المصاريف السيادية التي ارتفعت إلى 39 في المئة من الموازنة العامة، أي أن الإقليم سيحصل على 8 في المئة من الموازنة العامة. لكن هذه المصاريف السيادية لن تذهب لخدمة إقليم كردستان، فالأكراد صاروا أقل من 1 في المئة من الجيش العراقي، وأقل من 0.6 في المئة من الرتب القيادية فيه، وكذلك هي نسبتهم في قوات الحشد الشعبي ووزارة الخارجية، أي أن الأكراد سوف يدفعون ثلث وارداتهم العامة لمؤسسات لا يشاركون فيها البتة. بل إن هذه النسبة الضئيلة لن تدفع إلا بعد تلبية شروط تعجيزية، منها مراجعة أعداد الموظفين العامين في الإقليم، وخضوعه لشروط بغداد بشأن المطارات والمعابر الحدودية، وغيرها الكثير من الشروط التي تدرك السلطة استحالة تطبيقها.
تستخدم السلطة المركزية حقوقها وسطوتها الدستورية والقانونية كعقاب ضد المجتمع الكردي، لا قواه السياسية. فما علاقة قطع الرواتب والتعجيز المالي بالخلاف السياسي؟ وهل يقدم الموظفون العامون في الإقليم الخدمات للأحزاب والقوى السياسية الكردستانية المعارضة والمختلفة مع الحكومة المركزية أم للمجتمع الكردستاني الذي هو جزء من المجتمع العراقي؟
المسألة الأخرى تتمثل في رفض الحكومة المركزية الدخول في أي حوار مباشر مع الإقليم على رغم إعلان حكومة إقليم كردستان العراق التزامها قرار المحكمة الدستورية الذي لم يصدر إلا بعد إجراء الاستفتاء، وأعلن فيه أن الدستور العراقي لا يسمح لأي منطقة في العراق بإجراءات تخولها الاستقلال، أياً كانت الظروف. لكن الحكومة العراقية لا تزال ترفض الحوار، أو فتح الملفات العالقة بين الإقليم والحكومة المركزية بطريقة شفافة، وعبر وسطاء دوليين.
ما تفعله القوى المركزية هو الاستغناء التام عن مبدأ الشراكة في الدولة العراقية، والذي نص عليه الدستور والعرف التأسيسي للدولة. فالأكراد اليوم ليسوا أعضاء فاعلين في أي من المؤسسات المركزية للدولة. سحب موقع قائد أركان الجيش من الأكراد، كذلك لم يعد للأكراد إلا وزيران ثانويان في الحكومة المركزية، بعدما سحبت الثقة من وزير المال السيادي. وليس للأكراد أي دور في مجلس الأمن الوطني أو المحكمة الدستورية. وقبل كل شيء ليس لهم أي رأي في القرار الاستراتيجي للدولة تجاه الملفات الداخلية والإقليمية.
* كاتب سوري
|