أيهما أبقى: الدولة بإمكاناتها الاقتصادية أم بقدراتها العسكرية؟ سؤال إجابته لا يمكن أن تسقط من عين المتابع للتفاعلات في المنظومة الدولية على مدار الأربعين سنة الماضية والذي برهنت فيه الأحداث على أن مفهوم القوة العسكرية ما هو إلا محصلة لمراحل أخرى سابقة في قوة الدولة، يأتي على رأسها نهضتها الاقتصادية أو ما أصبح يُعرف الآن بالتنمية. فالاقتصاد بصرف النظر عن التطرف في التطبيق في مذاهبه، سواء الليبرالية أو الاشتراكية، بات عاملاً محورياً في تحديد قوة الدول والمجتمعات، واتسع المفهوم ليشمل جوانب أخرى تتفاعل مع بعضها بعضاً ويؤثر كل منها في الآخر ما بين اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية وثقافية، لتذهب محصلتها في النهاية في مصلحة الفرد الذي يكون في أمس الحاجة إلى تعليم متميز وإلى فرصة عمل بجانب ثقافة عصرية تؤهله لأن يتفاعل في شكل حضاري مع واقعه.
ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في وجود دولة قوية بمؤسسات، وأن تكون نظرية الحكم فيها مبنية على التنمية والإنجاز. وعلى رغم أن ثمار خطط التنمية لأي مجتمع تحتاج إلى الوقت لجني ثمارها، بخاصة في حالة التعليم وتغيير العقول، فذلك لا يمنع من أن تكون هناك تأثيرات آنية من طريق تحفيز الاقتصاد بالمشروعات التي تخلق فرص عمل حقيقية تمتص البطالة وتُنشط النمو.
هذا فضلاً عن أن الإصلاح العاجل يحتاج إلى اتخاذ قرارات شجاعة على طريقة ما حدث مثلاً في دولة مثل مصر أخيراً بتحرير سعر صرف عملتها المحلية في مقابل الدولار والعملات الأخرى، ما ضبط إيقاع اقتصادها في غضون فترة قصيرة.
وهناك محطات مهمة تُبرهن على أن الاهتمام بالمواطن والدفع به ليدخل منظومة التفاعل في الحياة وتحقيق العدالة بتقديم الخدمات الأساسية له كالتعليم وفرص العمل؛ كانت سبباً في استقرار هذه المجتمعات ونهوضها.
وهناك في المقابل محطات أثبتت أن الاهتمام بشكل القوة في جانبها العسكري فقط يؤدي إلى انهيار الدول، وأبرزها أولاً: محطة الاتحاد السوفياتي السابق. فمن كان يتصور أننا سنبدأ نعيش عصر المعلومات بكل هذه السهولة في توقيت متقارب مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 الذي لم تحمه من تفكُّك وحداته، لا آلاف الرؤوس النووية ولا أنه ثاني أقوى الجيوش في العالم، فتفتّت إلى دول صغيرة بسبب أن معايير القوة الحقيقة لا تبني فقط على القوة العسكرية والتوسع وإنما تكمن في التنمية الشاملة التي تأتي على رأسها النهضة الاقتصادية.
ثانياً: محطة ثورات الربيع العربي التي قدّمت الدرس المهم بأن سياسات الإفقار وتقديم الدعم والعيش بالحد الأدنى والحجر على طاقات المجتمعات في سبيل الاستمرارية وتوريث الحكم قد يؤدي إلى كارثة على طريقة ما شهدنا في مجتمعات تشردت فيها الملايين، ودول لم تعد دولاً، وأخرى أصبحت مسرحاً للصراعات الدولية. ذلك كله بسبب الفهم الخاطئ لفكرة الحكم والسياسة بكونها هي المهيمنة على مجتمعات تعيش على قدر ما ينعم به مَن يحكمون على الرعية فيها وليس على قدر ما يساهم فيه هؤلاء الأفراد في بنائها. وهو النهج الخطأ الذي نتمنى ألا يتكرر وأن تكون دروس هذا الواقع مهضومة لمن بيدهم مقاليد الحكم بأن مصدر القوة الحقيقي هو الفرد الذي يجب أن يكون في قمة أولوياتهم.
والمحطة الثالثة تأتي من إيران، هذه الدولة التي تقدم ديكوراً مسرحياً في ما تفعله تمثيلية الانتخابات الرئاسية فيها والمحصورة في النخبة الدينية فقط، وهذا التقديس المطلق للمرشد في شكل يتنافى مع القيم الحقيقية للديموقراطية. فالسلطة ليست في من ينتخبه الشعب وإنما في يد المرشد وحوزته الدينية. ويشكل ذلك نمطاً آخر من الاستبداد باسم الدين تحت مسمى ولاية الفقيه، وكانت النتيجة الفشل الداخلي والاستعداء للخارج بخلق سياسات توسعية في دول الجوار واستخدام البرنامج النووي وتصدير إسرائيل كعدو مصطنع إلى الرأي العام علماً أنه لم ولن تحاربها إيران يوماً ما. فمجمل هذه التوجهات في السياسة الإيرانية؛ سواء في الداخل أو الخارج، محصلتها عملت على إفقار المجتمع على رغم ثرائه من البترول والغاز الذي يحتل فيهما مرتبة متقدمة بين الدول المنتجة على مستوى العالم. لا يجد المواطن الإيراني أثراً لذلك في حياته.
ولم تكن مفارقة، على خلفية هذا التناقض في هذه السياسات، أن يكون للمجتمع الإيراني السبق من ثورات الربيع العربي بثورتهم الخضراء في 2009، ولولا القمع الشديد من الحرس الثوري لكان لإيران شأن آخر اليوم. ويسير النهج الإيراني الآن على طريقة الاتحاد السوفياتي السابق الذي عندما انهار لم تنفعه لا ترسانته النووية ولا جيشه القوي، خصوصاً بعد عودة التظاهرات والاحتجاجات إلى المجتمع الإيراني من جراء تهميشه.
فالتنمية بأبعادها المختلفة والرخاء الاقتصادي الذي يصل المجتمع ككل، من أعمدة قوة أي دولة حتى لو كان لها ملمح عسكري في توجهاتها الخارجية على طريقة الولايات المتحدة وشركائها في حلف الناتو. فالفيصل هنا القوة النابعة من المجتمع، وليس العكس.
* كاتب مصري. |