«الناس تعبت من الانتخابات». كانت هذه العبارة، أو ما يؤدي معناها، من أكثر العبارات تداولاً عندما تفاقمت الأزمة السياسية في مصر في بداية 2013، بعد عامين على ثورة 25 يناير، وبدأت الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
لم تكن الانتخابات التي فاز فيها الرئيس الأسبق محمد مرسي قد مضت عليها أشهر، عندما بدا أن انتخابات مبكرة جداً قد تكون المخرج الأكثر ديموقراطية، والأقل كلفة، من أزمة ترتبت على إنكاره تعهدات التزم بها عشية الاقتراع، ونزوع جماعة «الإخوان المسلمين» إلى إقصاء الأحزاب والقوى السياسية بلا تقدير لتداعيات السعي للانفراد بالحكم.
كانت ثورة يناير فقدت قوة الدفع الأولى التي انحسرت تدريجياً لأسباب في مقدمها غياب الرؤية، وعدم الاستعداد لليوم التالي لإبعاد الرئيس الأسبق حسني مبارك، والانقسام العميق الذي مكَّن القوى المضادة من امتلاك المبادرة. وأدت ممارسات «الإخوان» بعد فوزهم بالرئاسة إلى تعميق الانقسام، وامتداده إلى التيارات السياسية «المدنية» التي كانت جزءاً من الثورة أو دعمتها.
فقد راهن فريق في هذه التيارات على أن الانتخابات الرئاسية المبكرة ستفتح طريقاً إلى ديموقراطية بدت محتجزة. لكن الخلاص من «الإخوان» بأي ثمن كان غاية فريق آخر فقد الثقة بجدوى الانتخابات، اعتقاداً بأنها ما مكَّن هذه الجماعة من تصدر المشهد السياسي لعامين. وليس جديداً هذا النوع من الإحباط. ومع الاعتذار لرواد التنوير عن هذه المقارنة، فقد أُصيب بعضهم بإحباط أربكهم، كفولتير في سنواته الأخيرة (توفي في 1778). فعلى رغم إيمانه العميق بالحرية، بحث عن «مستبد مستنير» لأوروبا كلها. وعندما خاب أمله بملك بروسيا فريدريك الثاني، تطلع إلى كاترين الثانية في روسيا.
لكن روَّاد التنوير كانوا معنيين في تلك المرحلة المبكرة بتحرير العقل أكثر من فتح المجال العام السياسي، بخلاف حال البلدان العربية التي بدا في مثل هذه الأيام قبل سبعة أعوام أنها مقبلة على ربيع سياسي. لكن قبل أن تتفتح زهوره باتت سماء مصر، كغيرها من بلدان عربية، ملبدة بغيوم تكثفت مطلع 2013 وحجبت حتى إمكانات النقاش حول الخيار الأفضل، وهل هو إزاحة «الإخوان» والقضاء عليهم، أم إزاحة الحواجز التي وضعوها أمام التقدم باتجاه نظام ديموقراطي. وعندما بلغت الأزمة ذروتها قرب منتصف 2013، كان المزاج العام مهيأ لقبول الموقف الذي أعطى أولوية مطلقة للخلاص من «الإخوان»، في ظل تراجع ملموس في الطلب على الديموقراطية، ونجاح متزايد لمحاولات شيطنة ثورة يناير عبر دعاية ممنهجة حمّلتها المسؤولية عن فوضى انتشرت في المجتمع.
حدث هذا التراجع في الطلب على الديموقراطية تدريجياً، ولكن بسرعة تُعد قياسية، بعدما توجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع أربع مرات في غضون عامين ونيف بمعدلات مشاركة غير مسبوقة منذ انتخابات كانون الثاني (يناير) 1952 البرلمانية، من دون أن يروا تحسناً، بل وجدوا أن الأوضاع تمضي من سيء إلى أسوأ.
وساهم خطاب «المراهقة الثورية» في التراجع، سواء بسبب استعلائه وافتراقه عن الواقع، أو نتيجة ثورة التوقعات الهائلة التي أطلقها من دون وعي بأنها تؤدي إلى خيبات أمل سريعة للغاية في ظروف كهذه.
غير أن الثقافة السائدة في مصر، كما في مجتمعات لم تبزغ فيها أنوار الحرية إلا لماماً، لعبت دوراً رئيساً في فقدان أعداد متزايدة من الناس الآمال العريضة التي راودتهم خلال أيام الثورة وبُعيدها، وعادوا مجدداً إلى البحث عن مُنقذ أو مُخلص. وتدل هذه الثقافة على أن أفكاراً تعود إلى العصور القديمة والوسطى ما زالت مؤثرة في غير عصرها، ومن أكثرها شهرة فكرة «سلطان غشوم ولا فتنة تدوم». ونظراً إلى فشل رهانات متكررة على «مستبد عادل» لم يوجد أبداً، يُكتفى في ظروف كهذه بالبحث عن منقذ يحقق استقراراً بأي ثمن.
لم يتمسك من خاب أملهم بالديموقراطية بشيء من هذا الأمل بعد عامين ونيف فقط، مع أنهم صبروا على «الاستقرار بأي ثمن» في أشكاله المتوالية على مدى نحو ستة عقود، ثم شارك كثيرون منهم في الثورة عليه بعدما تنامى الوعي نسبياً في السنوات السابقة على هذه الثورة بأن تحرير النظام السياسي ضروري للحد من الفساد والفقر.
تلاشت بسرعة بشائر الديموقراطية تحت وطأة هذه الثقافة، التي ظهر أثرها القوي حتى في الفترة القصيرة التي كان فيها الأمل بنظام أفضل قائماً، وأُجريت فيها انتخابات واستفتاءات توفر لها مقداراً كبيراً من مقومات الحرية والنزاهة والمشاركة الواسعة. فقد ذهب قطاع واسع من الناخبين للاقتراع متأثراً بهذه الثقافة، وباحثاً عن منقذ يتجسد، والحال هكذا، بالأقوى الذي يستطيع أن يحقق الاستقرار، ويحل في الوقت ذاته الأزمات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
ولم يكن تفضيل قطاع واسع من الناخبين تنظيم «الإخوان»، الذي أقام شبكة رعاية اجتماعية واسعة على مدى عقود، إلا أحد تجليات تلك الثقافة. وحين فشل الرهان عليهم، كان الاضطراب العام مُغذّياً لاستمرار أثر تلك الثقافة، التي تدفع إلى البحث عن بديل لا بد أن يكون قوياً وقادراً على فرض الاستقرار، ولكن من دون طموح إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية أفضل، إذ يصير الاستقرار غاية المنى.
ويزداد الميل إلى تفضيل الأقوى، أو مَن يبدو كذلك، في فترات الاضطراب الذي يخلق بطابعه، وبتداعياته الأمنية والاقتصادية، حال خوف عام. ويحصل هذا أحياناً بوجود ثقافة ديموقراطية أو شيء منها، غير أن رسوخ ثقافة غير ديموقراطية في المجتمع يظل العامل الأكثر تأثيراً عندما يبدأ الوعي بالحاجة إلى انفتاح سياسي، لكنه يصطدم بحواجز على الطريق. وفي هذه الحال يكون الارتداد سريعاً، إذ تبدو الديموقراطية كما لو أنها ترف لا حاجة إليه، ويصبح الحط من شأنها مقبولاً.
ولذا تبدو هذه الثقافة، بعد سبعة أعوام على الربيع العربي، العقبة الأم التي تواجه أي جهد لحل أزمات منطقتنا، سواء المشتعلة أو التي ما زالت تحت السيطرة، وليس العائق الأساسي أمام الديموقراطية فقط. فالبحث عن استقرار بأي ثمن يؤدي إلى قبول تسويات وترتيبات تُعيد الأوضاع إلى ما قبل 2011، وتحمل في طياتها عوامل انهيارها عاجلاً أو آجلاً.
|