قال الناطق باسم الحكومة الفرنسية: «إن باريس لا تمانع محاكمة الإرهابيات الفرنسيات اللواتي تعتقلهن قوات سورية الديموقراطية إذا كانت هناك مؤسسات قضائية قادرة على ضمان محاكمة عادلة لهن في الجزء الكردي من سورية». وربما كان هذا الجواب الرسمي الأول عن السؤال عن مصائر مئات من مقاتلي «داعش» من غير السوريين والعراقيين ممن اعتقلتهم القوى المحلية التي حاربت التنظيم، مثل «الحشد الشعبي» و «قسد»، إضافة إلى الجيش العراقي. وهؤلاء المئات سيصيرون آلافاً إذا استمر البحث في الصحراء عن مختبئين، ذاك أن التقديرات تقول إن أكثر من 10 آلاف مقاتل أجنبي كانوا في صفوف «داعش»، وهؤلاء اختفى معظمهم وقتل بعضهم واعتقل الآخر.
العالم إذاً أمام استحقاق العودة. العالم كله. الأرقام لا ترحم أحداً. الفرنسيون يقولون إن مئات من مواطنيهم هناك. الأرجح أنهم على عتبة الألف. بلجيكا تتفوق على الجميع بمساهمتها في «الجهاد»، قياساً بعدد السكان، لكن من المرجح أن رقم كوسوفو وفق هذا القياس هو الأكبر أوروبياً: ذاك أن بريشتنا تقول إن هناك 300 من مواطنيها يقاتلون إلى جانب «داعش» و «النصرة» في سورية والعراق، وعدد سكان الدولة الوليدة لا يتجاوز الثلاثة ملايين نسمة.
كل الحكومات تهرب من استحقاق مواطنيها الذين قدموا لـ «الجهاد». علماً أن هذه البلاد لم تكن بريئة عندما غادروها. هناك في الصحراء وعلى تخوم المدن المدمرة، أنشئت سجون مرتجلة للمقاتلين الأجانب، ومخيمات أشبه بمعتقلات لعائلاتهم. الميليشيات المحلية حائرة بمصائر معتقليها هؤلاء. ثمة قنوات لتدبير المعتقلين السوريين والعراقيين من عناصر التنظيم وأمرائه. مبادلات عشائرية، وعمليات استيعاب في الميليشيات وقتل وسجون وأنهار تسوق الجثث إلى مصبات بعيدة. الأجانب لا قيمة لهم في سياق عمليات الثأر ومبادلة الضغينة بضغينة. قتل العنصر التونسي لا يشفي غليلاً مذهبياً، ولا يُشعر الإيزيدي الذي سبيت شقيقته باستعادة «شرف العائلة».
التدبير الفرنسي يكشف أن دول المصدر غير مستعدة للتعامل مع الظاهرة. التساؤل عن قدرة الأكراد السوريين على تأمين «محاكمة عادلة» لمواطنة فرنسية التحقت بـ «داعش»، يؤشر إلى أن باريس غير راغبة في التعامل مع قضية مواطنيها هناك. وثمة امرأة لبنانية تقيم مع أطفالها الثلاثة في مخيم عين عيس قرب الرقة، جهد أهلها لاستعادتها من دون أدنى تجاوب من السلطات اللبنانية. «هيومن رايتس ووتش» وثقت أوضاع آلاف الأطفال في مخيمات أشبه بمعسكرات اعتقالٍ في محيط الموصل والرقة وغيرهما من المدن التي أصيبت بالزلزال.
الأهل يصطدمون أولاً بالقوانين، ذاك أن التشريعات لم تلحظ التعامل مع حالات الإرهاب في الخارج وما ينجم عنها من زيجات وولادات وعلاقات موازية. وبدل أن تسعى الحكومات إلى معالجة هذا الأمر، جعلت من قصور التشريع باباً للتخفف من أعباء مواطنيها «الإرهابيين». «لا قانون يتيح التعامل مع ابنتك»، قال المسؤول اللبناني لوالد امرأة لبنانية تقيم في محيط الرقة بعدما قتل زوجها هناك. وهذه معادلة سبق أن جُربت وارتدت وبالاً على المقدمين عليها. فلطالما سهلت دول خروج مواطنيها «الجهاديين»، ظناً منها أنها تتخفف من أعبائهم على أمنها وسجونها، ثم اصطدمت لاحقاً بظاهرة «العائدين».
ثم إن للأمر وجهاً آخر، فأحزاب اليمين الأوروبي تضغط لعدم استقبال المواطنين الأوروبيين الذين «قرروا خيانة قيم بلدانهم»، وفي تونس ثمة تحالفات سياسية واسعة تطالب بنزع الجنسية عن «المجاهدين في سورية والعراق»، وروسيا التي سهلت حكومتها خروج آلاف من مواطنيها إلى سورية بهدف التخلص منهم، وتعزيز القناعة بأن ما يحصل في سورية هو إرهاب محض، لا تبعد مخيمات العائلات الروسية من قواعد الجيش الروسي في سورية سوى كيلومترات قليلة، والروس يرفضون دعوات تسلم مواطنيهم. ولبنان لا يخلو من أصوات داعية إلى منع إبقاء «المجاهدين» حيث هم.
العالم ينفض يديه من «داعش» مرة جديدة. التنظيم وُلد من رحم هائل تجاوزت حدوده سورية والعراق، والتعامل معه بصفته ابناً لأب واحد هو استئناف للهروب إلى الأمام. غادر مئات الفرنسيين إلى سورية والعراق، مستفيدين إما من خللٍ في النظام الأمني وإما من رغبة في التخلص منهم، وفي كلا الاحتمالين تتحمل فرنسا جزءاً من المسؤولية، ناهيك بأن تخففها من مسؤوليتها سيولد ضغائن موازية ستظهر على ملامح الجيل المقبل من «جهادييها». الأمر ذاته ينطبق وعلى نحو أوسع على تونس وعلى الأردن وعلى لبنان. فالجميع لعب حول ظاهرة «داعش»، واليوم الجميع غير راغب في التعامل مع التبعات البشرية لهزائمه.
التونسيات ممن تلتقيهن في هذه المخيمات، هن تونسيات عاديات بعد أن خلعن البرقع وقررن انتظار مصائرهن مع أطفالهن في أعقاب هزيمة التنظيم. هن غير بريئات طبعاً، ويجب أن يتحملن تبعات قرارهن المجيء إلى سورية، لكنهن في هذه المعسكرات في أوضاع غريبة مع أطفالهن. وينطبق هذا الأمر على سيدات ألمانيات وشيشانيات ومغربيات. وهن إذ يتلون فعل الندامة على فعلتهن، يُخبئن ما لا يحصى من الحكايات التي تنتظر أوضاعاً تتيح قولها. فرواية فاطمة عن مغادرتها تونس حين ترويها لغريب في مخيم عين عيس، لن تكون ذاتها حين توضع في سياقها الاجتماعي التونسي. وحين تقول الزوجة الألمانية لأمير «داعش» إن زوجها أتى بها من ميونخ إلى سورية من دون أن تكون على علم إلى أين يصطحبها، فهذا ما لن تقوى على قوله في ألمانيا. ناهيك بأن الأطفال، وهم تونسيون وألمان، لن يكونوا عرضة لصقيع الصحراء الذي لا تقيهم منه الخيم المرتجلة في عين عيس.
نور تنتظر منذ نحو سنة تقرير مصيرها مع أولادها الثلاثة. هي ليست بريئة من دون شك، لكن هرب الحكومة اللبنانية من حقيقة أن هناك أكثر من 60 طفلاً لبنانياً إما ولدوا في الرقة، أو اصطحبهم أهلهم إلى هناك، هو نموذج عن قصور سبق أن واجهت به الحكومات الكثير من الاستحقاقات. وإذا كانت فرنسا على هذا المقدار من الخفة في التعامل مع الظاهرة، فما علينا إلا أن نتوقع أن يكبر أطفال نور هناك في المخيمات وعلى هدى أفكار آبائهم. |