الهزيمة العسكرية لتنظيم «داعش» في العراق، وتداعيات الاستفتاء في إقليم كردستان والانتخابات النيابية المقبلة، تمثّل لحظات فارقة في تاريخ العراق المعاصر، فهناك فرصة لتصحيح المسار وإطلاق البلاد نحو الازدهار والاستقرار المنشودين، ويقيناً أن هناك تحديات أخطر إذا لم يتم تدارك استحقاقات هذه المرحلة. تفويت هذه الفرصة للتأسيس لعراق يتجاوز أزماته، سيكون له آثار أكثر خطورة من تلك التي ترتّبت على عدم قدرة النخبة السياسية العراقية على إدارة عملية سياسية سليمة ما بعد 2003.
وعلى هذا، فإن العراق في حاجة ماسة إلى حوار داخلي صريح لمعالجة الخلل البنيوي الكامن في صلب العملية السياسية التي تشكلت في أعقاب 2003، وأقحمت العراق في دوامة من الأزمات المترابطة والمتلازمة مضموناً، والمختلفة شكلاً. وفي المحصّلة، فإن العراقيين بمختلف مكوّناتهم ناقمون على الأداء الحكومي والمنظومة السياسية، وباتت حركة التذمُّر واتهامات الفساد تلاحق الطبقة السياسية من بغداد والبصرة إلى الأنبار والموصل إلى أربيل والسليمانية.
الفساد ينخر في جسد الدولة العراقية، والمال السائب هو الذي موّل العنف والأزمة المستدامة. وبات العمل على تجفيف مستنقع الفساد ضرورياً لإنهاء هذه الدوامة ومنع ظهور الإرهاب مجدداً، وهو شرط أساسي لاستعادة ثقة المواطن بمنظومة الحكم.
وتمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أن المبادرة التي أطلقها رئيس الوزراء حيدر العبادي، لمحاربة الفساد بداية، يمكن البناء عليها بمنهجية قانونية وعلمية تتصدّى للفساد الكامن في منظومة الدولة وإدارة المال العام. إنهاء دوامة الأزمة في العراق يتطلب إعادة تشكيل العملية السياسية الحالية، على أساس مفهوم الدولة المدنية، وتعزيز القيم المدنية وتدعيم دور المرأة وحقوقها، وتأكيد الالتزام بمعايير حقوق الإنسان كمنهج دستوري. إن الغموض في بعض بنود الدستور، وسوء تطبيقه في ضوء التجربة العملية، يجعلان مراجعة الدستور واردة، لكن من خلال الآليات الدستورية الذي ارتضاها العراقيون، فالدستور يجب أن يكون المرجعية في حسم الخلافات.
وفي هذا السياق، فإن التعامل مع الوضع الكردي لا يمكن أن يكون من موقع المنتصر تجاه المهزوم، فالحالة التاريخية للأكراد أنهم قد يُهزمون عسكرياً في السهول، لكنهم يتجمّعون في الجبال وتعاد الكَرّة، وفي كثير من الأحيان بدعم خارجي، والعراق يبقى محكوماً بهذه الدوامة العبثية والمدمّرة. للأكراد حق طبيعي في تقرير مصيرهم، لكن تقرير المصير يتأتى من خلال الارتكاز على بغداد العاصمة، لا أنقرة ولا طهران ولا واشنطن، ويتحقق بالتفاهم مع الشركاء في العراق، لا التنازع والتناحر أو الاعتماد على قوى إقليمية أو أجنبية، ويتطلب أيضاً كأولوية، الإصلاح السياسي الداخلي وإنهاء الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة التي باتت تهديداً جسيماً ينخر في جسد منظومة الحكم في كردستان.
لقاء المطالب العربية والكردية
ربما للمرة الأولى في التاريخ المعاصر للدولة العراقية يقدّم كثر من الأكراد مطالب الإصلاح الداخلي والحكم الرشيد على الشعارات القومية، وذلك متغيّر شديد الأهمية يجب التعامل معه بروية وعلى أساس القراءة السليمة للمشهد لإنتاج حلول تشمل العراق بأكمله، وليس استثمار الحدث لإعادة إنتاج تاريخ المظلومية الكردية أو التسلُّط الشوفيني العروبي. مطالب الإصلاح في السليمانية وأربيل تتناغم وتتلاقى مع مثيلاتها في البصرة والأنبار وبغداد، ونجاح الإصلاح مرهون بحلول شاملة تنهي دوامة الأزمات عراقياً. الخلاف بين بغداد والقادة السياسيين الأكراد يجب أن لا يتحول إلى عقوبة بحق الناس، وإلى تجاهل الحقوق الدستورية لكردستان، فالدولة مطالبة بمنع وقوع الأذى على المواطنين، وتجب المباشرة بدفع رواتب موظفي القطاعات الخدمية والبيشمركة الذين تصدّوا ببسالة لـ «داعش»، وفتح باب المفاوضات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، ومكاشفة الملفات المالية والنفطية، من خلال البرلمان الاتحادي وبرلمان إقليم كردستان. وفي إطار الأزمات المترابطة، فإن التوجُّه لمعالجة الفساد أو حل الأزمة مع إقليم كردستان، لا يمكن أن يتكامل من دون التعامل مع السنّة العراقيين الذين هم في مقدم ضحايا مرحلة «داعش»، وهم أصحاب المصلحة المباشرة في اجتثاث الفكر التكفيري من جذوره، ويجب أن تتم معاونتهم ودعمهم وتمكينهم لتحقيق هذا الهدف من خلال المشاركة الحقيقية في القرار العراقي وإرجاع النازحين إلى ديارهم.
ويقف تحدي إعادة إعمار المدن التي تحرّرت من «داعش» في مقدم أوجه الدعم المطلوبة، لكن واقع الحال يؤكد أن العراق في حاجة إلى نهضة اقتصادية شاملة تقود الحلول المترابطة لأزماته، وتؤسس لثقافة التنافس والتكامل الاقتصادي بديلاً من التنابذ والتصادم السياسي. وهذه مناسبة للنظر بتفاؤل إلى مؤتمر المانحين الدوليين المقرر عقده في الكويت، على قاعدة فهم عام لا بد أن يترسخ، ومفاده: إن وحدة العراق وأمنه وهزيمة التطرف قضايا مرهونة بتعزيز البنية التحتية الرابطة وتنمية التكامل التنموي بين مناطق البلاد المختلفة، وبين العراق وجواره الإقليمي، فيصبح مساحة مصالح مشتركة للجيران لا ساحة تصفية حسابات، إضافة إلى خلق فرص عمل للشباب.
وربما يكون السبيل إلى ذلك من خلال تأسيس «صندوق الاستثمار» وعرضه للاكتتاب المحلي أولاً، حيث يكون لكل مواطن عراقي حق المشاركة فيه، على أن تخصص الدولة نسبة محدّدة من واردات النفط (على سبيل المثل 5 في المئة سنوياً) لدعمه. كما يمكن شركات القطاع الخاص العراقية والأجنبية الاشتراك في الصندوق، وأيضاً المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة والصناديق السيادية، على أن يموّل الصندوق مشاريعَ البنية التحتية الاستراتيجية ذات الجدوى الاقتصادية، كميناء البصرة، وشبكة الطرق السريعة، والسكك الحديد، والمطارات، ومشاريع الري في سهل نينوى وكرميان وأربيل، واستصلاح الأراضي في الجنوب، والمدن الصناعية، والسدود.
وإضافة إلى دوره الداخلي، يمكن الصندوق أن يشارك في تمويل مشاريع البنى التحتية التي تربط بين دول المنطقة، فالعراق محور استراتيجي مهم يتلاقى فيه العالم العربي مع إيران وتركيا، وهو يربط بين اقتصادات الخليج وأوروبا، ويمكن أن يكون قلب طريق الحرير الجديد إلى البحر المتوسط، كما أن العراق بؤرة إنتاج الطاقة، غازاً ونفطاً، وفي إمكانه أن يكون ممراً سالكاً وآمناً لمنظومة تصدير الطاقة.
ويمكن النظر إلى تجارب مماثلة في تايلند وفيتنام والهند جذبت تمويلاً استثمارياً من الصناديق السيادية في اليابان والصين والخليج. وكاستدراك، يجب أن يشكَّل «صندوق الاستثمار» بقانون خاص، وأن يكون مستقلاً عن الحكومة تديره هيئة خاصة مهنية في منأى من السجالات السياسية، ويكون أعضاء هيئته الإدارية مرشحين مهنيين من الحكومة مصادقاً عليهم من البرلمان، وأن يخدموا لفترة 6 سنوات كي لا يكونوا محكومين بالاعتبارات الانتخابية. ومن المستحسن أن تشارك في إدارة الصندوق المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الإسلامي، لجذب الاستثمارات الخارجية. كما من الضروري أن يكون للصندوق نظام محاسبي ومالي خاضع للرقابة المالية وفق السياقات الدولية، لضمان منع التدخل السياسي والفساد.
التعامل مع الأزمات العراقية في شكل مجتزأ وبعيد من السياق البنيوي العام، أثبت فشله طوال السنوات الماضية. واليوم، أمام العراق فرصة عبر حلول شاملة تضع الأمور في نصابها الصحيح، ويمكن أن تكون الانتخابات المقبلة في العراق وإقليم كردستان مناسبة يتبارى فيها الفرقاء في مدى جدية الالتزام بحل شامل لدوامة الأزمة العراقية، لا أن تكون محطة أخرى للتشرذم والصراع والدوران في الحلقات المفرغة.
|