الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون ثاني ٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
ترسّبات العقل الجمعي تحول دون التوجه المستقبلي لصنّاع القرار العرب - عواطف عبد الرحمن
على رغم أن العقد الأخير شهد قفزة عالمية باتجاه تعظيم الدراسات المستقبلية في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية، وتزايد اعتماد حكومات كثيرة على ما تنتجه عشرات المراكز المتخصصة في الدراسات المستقبلية والاستشرافية في رسم سياساتها المحلية والدولية، فقد غاب العرب والمسلمون عن هذا المجال إلى حد بعيد، لأسباب سياسية بالأساس تتعلق بغياب الحريات والديموقراطية والشفافية والمؤسسية والاستناد إلى رؤية (الزعيم الأوحد). وحتى المراكز العربية التي عنيت بعلوم المستقبل اهتمت أكثر بترجمة ما تنتجه المؤسسات الغربية (الأوروبية والأميركية) عن المستقبليات، على رغم اختلاف الافتراضات التي اعتمدت عليها تجاه القضايا العربية. وحينما كشفت هذه الترجمات عن حقيقة أهداف الغرب في كيفية إحكام السيطرة على الموارد العربية أو السعي إلى تغيير منظومة القيم العربية الإسلامية؛ لوحظ أن الدراسات المستقبلية القليلة التي أجريت في العالم العربي لم تحاول نقد التراث الغربي في المستقبليات وإجراء دراسات بديلة عن العالم العربي.

الواقع أن التفكير المستقبلي في المجتمعات العربية يواجه معضلة ثقافية كبرى تعرقل استمراره وتطوره، إذ يعتبره البعض تهديداً للتابوات الفكرية والثقافية الموروثة منذ مئات السنين، ويرى آخرون أن الدراسات المستقبلية صورة جديدة من صور الغزو الفكري تستهدف القضاء على الثقافات التقليدية ذات الجذور الراسخة، وأنها تعكس ثقافة غربية علمانية معادية للدين. ويرصد الباحثون ندرة إجراء هذه الدراسات المستقبلية في العالم العربي وأنها مقصورة على النطاق الأكاديمي، ولا تشكل جزءاً من نسيج التفكير الاجتماعي أو الممارسات العملية، سواء من جانب الحكومات أو الجماهير العربية.

وأول ما تصطدم به جهود المستقبليين العرب هو ثقافة الماضي التي تنتشر على نطاق واسع وتضم معظم الفئات الاجتماعية في الحضر والريف ممن ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية والثقافية. وتكتفي الثقافة المعادية للفكر المستقبلي باستدعاء بطولات ونماذج من التاريخ بدلاً من السعي إلى صوغ المجتمعات العربية من خلال سيناريوات مستقبلية واقعية وممكنة ومرغوبة اجتماعياً.

نحن إذاً أمام مشكلة جوهرية تتمثل في غياب ثقافة إدارة الحياة العربية وفق مخططات مدروسة بعيدة المدى تستهدف تغيير الواقع الراهن المكبل بالأفكار الغيبية والماضوية والقيود البيروقراطية سعياً إلى خلق واقع عربي يليق بالتراث المضيء الذي أرساه رواد التفكير المستقبلي من العلماء العرب والمسلمين مثل الكندي وابن رشد وابن خلدون، والأخير يعد بجدارة رائد علم الاجتماع التاريخي. ولا يمكن إغفال مدينة الفارابي الفاضلة التي ألهمت كل أصحاب اليوتوبيات في التاريخ الوسيط كالقديس أوغسطين وتوماس مور وفرانسيس بيكون ودانتي الليغيري. ولا شك في أن التفكير المستقبلي بمنهجه النقدي والعقلاني يواجه حالياً في العالم العربي بيئة ثقافية معادية، وهو نقيض التفكير السلفي الذي يحاول بناء المستقبل على شاكلة الماضي حتى شاعت الفكرة الساخرة عن أن العرب يتنبأون بالماضي ويتذكرون المستقبل. وإذا كانت الحال الراهنة للمعرفة الإنسانية والعلمية والتكنولوجية أتاحت للإنسان قدرات هائلة لاختيار مستقبله الجماعي والفردي، فإن ذلك أسفر عن حدوث تطور ملحوظ في مفهوم المستقبل، كما تطورت النظرة إليه مع تطور الفكر البشري فلم تعد تراه كما في السابق قدراً محتوماً خططت له قوى خارقة لا يملك الإنسان حيالها خيارات تذكر، بل أصبحت نظرة تنطلق من قوانين الصيرورة والتفاعل الجدلي وقدرة الحياة على التجدد، إذ يعتبر المستقبل مرحلة زمنية يمكن التحكم في مساراتها وأبعادها وليس شيئاً معداً سلفاً، وأن البشر شركاء فاعلون في تشكيل عالم المستقبل.

وإذا كان للعالم العربي اهتمام أساسي بقضية التنمية، فإن معظم التحديات التي تواجههم في هذا الصدد لا تمكن دراستها أصلاً إلا في الأجل الطويل مثل قضية التكامل العربي ودوره المحوري في إنجاز التنمية العربية، علاوة على قضايا الصراع العربي الإسرائيلي والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط والتغيرات المناخية وأزمات المياه.

ويضاف إلى ما سبق المشاريع المستقبلية الغربية مثل مشروع القرن الأميركي الجديد (2002) الذي يدعو إلى إعادة رسم الخريطة الإقليمية وتغيير هويتها وقيام نظام إقليمي بديل يستهدف إعادة هيكلة الشرق الأوسط. فضلاً عن المشاريع المستقبلية الإسرائيلية (إسرائيل 2020، إسرائيل 2025 وغيرها). لا شك في أن هذه التحديات التي تهدد الوجود العربي بموروثاته التاريخية ومعطياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الراهنة؛ تؤكد مدى احتياج العرب إلى دراسة المستقبل واستشراف آفاقه وتحديد المنطلقات الفكرية التي يجب أن ينفتحوا عليها في سياق عملية التأسيس الفكري والعملي للمستقبل العربي.

ويشدد الدارسون في مجال المستقبليات على أهمية الاستشراف العلمي للمستقبل العربي، إذ من دونه سيظل صناع القرار عاجزين عن مواجهة المستجدات والتحديات الراهنة؛ خصوصاً تلك التي فرضتها تداعيات ثورات الربيع العربي والناجمة مِن سقوط أنظمة دكتاتورية فاسدة مستبدة وورثتها نظم لا تمتلك الخبرة أو الرؤية المستقبلية لإدارة المرحلة الانتقالية وآثارها المباشرة وغير المباشرة.

وفي ظل الأزمات المتصاعدة في العالم العربي تبرز أمامنا الأزمة التي يعانيها العقل الجمعي والتي تحول دون غرس وتأصيل التفكير المستقبلي؛ سواء لدى الحكومات أو صناع القرار أو الجموع الشعبية بمختلف توجهاتها وتصنيفاتها ورؤاها وانتماءاتها الطبقية والثقافية. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أهم أسباب غياب التفكير المستقبلي في العالم العربي؛ ويتصدرها انتشار الفكر القدري والتواكلي والاستسلام الجماعي للفكر السلطوي الذي يستهدف ضمان السمع والطاعة وإلغاء عقول المواطنين من خلال توظيف الآليات الأساسية لتشكيل الوعي وتتجسد في نظم التعليم والمؤسسات الثقافية والأجهزة الإعلامية. وتعاني هذه الآليات من غياب التخطيط وتدهور مناهج التعليم وتراجع الثقافة الجادة وانتشار الثقافة الاستهلاكية التي لا تبني العقل والوجدان ولا تسعى إلى تطوير الإنسان. أما الإعلام، فهو صوت للمعلنين وثقافة السوق ويعتمد على برامج الترفيه والمنوعات والرياضة ويعبر عن مصالح مالكيه ولا يحرص على استطلاع اتجاهات الجمهور بل يجهل جمهوره تماماً. ويشير السبب الثاني إلى علاقة الإنسان العربي بالزمن الذي يعد أهم عناصر الرؤية الواقعية والعقلانية المتعلقة بقضايا وهموم المجتمعات العربية في مساراتها التاريخية والمستقبلية. فالمواطن العربي أسير رؤية سكونية تتناقض مع قوانين التغير والصيرورة ويغلب عليها الطابع الارتدادي والرجوع إلى التاريخ والميل إلى تقديس التراث بتناقضاته وإشكالياته.

أما السبب الثالث، فيتعلق بالظروف المجتمعية في العالم العربي وتتمثل بالاستبداد السلطوي والقيود الأمنية والفجوة الطبقية الهائلة والتعليم التلقيني والتضليل الإعلامي والتدهور الصحي والبيئي. فالإنسان العربي المقهور اجتماعياً وسياسياً يولد لديه الانكفاء على الذات المغلقة وعدم الانفتاح على التجارب المعاصرة كما يخلق لديه الخوف من المستقبل ويدفع به إلى جنون الاهتمام بالماضي تعويضاً عن الحاضر القاتم.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة