الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون ثاني ٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مع اندلاع الانتفاضة الثالثة: قراءة نقدية في الانتفاضة الأولى - عبير بشير
لأول مرة تترافق الهبّة الشعبية في الأراضي الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وضد قرار ترامب المجحف بشأن القدس، مع انتفاضة سياسية دولية ضد المروق الأميركي عن الشرعية الأممية. عندما تجرأ رئيس بأن يشطب بجرة قلم كل إرث السياسة الأميركية والدولية، معانداً الجغرافيا والتاريخ والمجتمع الدولي، ليعلن أن القدس عاصمة لإسرائيل؟ 

ويتزامن ذلك مع الذكرى الثلاثين "لانتفاضة الحجارة" هذه الكلمة الأثيرة لدى الفلسطينيين. فقد شكلت الانتفاضة الشعبية الأولى، وبجدارة، واحدة من بين أهم وأنبل الظواهر والحركات النضالية في تاريخ الكفاح الفلسطيني. وكان من أبرز مفردات هذه الانتفاضة: هو الحجر والمقلاع واللثام ودخان الكاوتشوك والإضراب، وأعلام فلسطين ورايات الفصائل. 

ورغم ذلك، لم تكن الانتفاضة فقط رميا للحجارة، ضد الجنود الإسرائيليين، ولا إشعال إطارات السيارات، بل كانت تلك الروح العظيمة الشفافة التي نسجت وصاغت اللحمة الوطنية وفعل الاشتباك اليومي، وجعلت الشعب كله مقاومة، دون أن يجرأ أي فصيل أن يحتكر هذه المقاومة.

بدأت شرارة الانتفاضة الأولى، عقب دهس شاحنة للاحتلال مجموعة من العمال الفلسطينيين في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، ثم سرت كالنار في الهشيم إلى سائر المدن والساحات في غزة والضفة الغربية، وقامت القيادة الفلسطينية من تونس بتوجيهها. غير أنه من المؤكد بأن تلك الانتفاضة لم تتم بقرار تنظيمي أو بدعوات منبرية، أو أن أحدا قال للشعب الفلسطيني انتفض ضد الاحتلال فانتفض.وذلك لأن الفعل الانتفاضي هو فعل شعبي تلقائي غير منظم، يصار بعد ذلك إلى إدراكه وقيادته ضمن الفعل السياسي التنظيمي.

وتميزت الانتفاضة الأولى بالتضامن الشعبي والتكافل الاجتماعي ومشاعر المحبة والتكاتف التي لفت المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية.وكان من أبرز إفرازات انتفاضة الحجارة هو ظهور الإسلام السياسي – حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي - وتصلب عودهما وسطوع نجمهما بعدما تبنتا خيار المقاومة.

يمكن القول إن الانتفاضة في عامها الأول والثاني كانت تقريباً بلا أخطاء، فقد كانت تجري وفق أداء شعبي فاق التوقعات، وضمن إيقاع وطني متصاعد ومتراكم، إلا أنه بدأت مع الوقت تظهر بعض السلبيات والأخطاء الفردية والجماعية. حيث اعتبر تعدد القيادات والبرامج أحد أبرز هذه الأخطاء، فقد تشكلت القيادة الوطنية الموحدة منذ بداية الانتفاضة، إلا أنه بعد أشهر قليلة برزت قيادة ثانية لها، وهي حركة حماس، والتي أخذت تنافس القيادة الموحدة، وتطرح برامج نضالية مختلفة، ومتعارضة، ولم يقتصر الأمر على الخلاف على الفعاليات، بل إن خطورة هذه الازدواجية كانت في التمثيل السياسي.

ورغم أن الإضرابات في بدايات الانتفاضة كانت مطلوبة لإظهار وحدة الموقف الشعبي وتناغمه مع موقف القيادة، ولكن مع كثرتها، صارت عبئاً على الانتفاضة، وتستنزف الاقتصاد الفلسطيني، وكان لا بد من تقنينها، إلا أن هذا لم يحدث، بسبب التنافس التنظيمي والحزبي الصارخ، حيث صار الهدف من وراء الإضرابات محاولة كل تنظيم إظهار مدى وقوة تأثيره على الشارع.

ومع بداية السنة الثالثة للانتفاضة، بدأ نوع من الفوضى الأمنية والاجتماعية بالظهور، واتسعت ظاهرة أخذ القانون باليد، وظاهرة الملثمين والمطاردين مع كل ما يعني ذلك.

في تلك الفترة أخذت توجهات بعض القوى الضاربة بالتحول إلى داخل المجتمع الفلسطيني، بعد أن كانت مركزة فقط على مواجهة الاحتلال، من خلال عنوان اسمه تصفية العملاء والخونة. ورغم أهمية كشف الجواسيس ومعاقبتهم، إلا أن هذه المسألة كانت تتم دون ضوابط ودون محاكمات عادلة، وقد سقط بها عدد من الأبرياء.

كما أدت الانتفاضة لتراجع بعض مظاهر الحياة العصرية، خاصة فيما يتعلق بالحريات العامة، وأخذ المجتمع الفلسطيني يتشدد أكثر في مفاهيمه الاجتماعية، وتخلى عن روح الانفتاح ليبدو أكثر تحفظاً وتزمتاً.

وفي حين بدأت الانتفاضة الأولى بتمرد الشباب على الاحتلال والبطريركية الأبوية معاً، غير إنها انتهت إلى "محافظة" اجتماعياً، وإلى قيود على لباس النساء؟

ومع قرار ترامب، وفشل خيار التسوية السلمية، واستحالة النصر العسكري في جولات قتال، بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة تطل برأسها. غير أن نقطة الخلاف تدور حول هوية تلك الانتفاضة، وهل يجب أن تكون على شاكلة الانتفاضة الأولى أم الانتفاضة الثانية - رغم الاعتراف بأنه لا يمكن السير فوق مياه النهر مرتين -.

ويرى المراقبون بأن بين الانتفاضتين فارق شاسع. فانتفاضة الحجارة جعلت الدولة العبرية تتخبط باحثة عن مخرج لمأزق، يكشفها أمام العالم بأنها دولة مدججة بالسلاح وتقاتل شعباً أعزل، وتصادر حريته، وتطارد صبية في الشوارع.

أما الانتفاضة الثانية النارية، فقد تم تسليحها وعسكرتها مبكراً، ووجد الفلسطيني نفسه ينجر إلى الملعب الإسرائيلي العسكري بشروطه. ولولا عمليات فدائية شجاعة، لكانت الصفة الغالبة على الانتفاضة الثانية هي عمليات انتحارية، وقد ظهرت تلك الانتفاضة كأنها إرهاب ضد الإرهاب، وتساوى الضحية مع الجلاد، ونجحت إسرائيل بتجريد الانتفاضة من التعاطف العالمي الذي نالته بجدارة في الانتفاضة الأولى.

كما اتسمت الانتفاضة الثانية بالفلتان الأمني والفوضى العارمة والتراجع الاقتصادي والاجتماعي، وتدمير مقار ومؤسسات السلطة الفلسطينية وبنيتها التحتية، الأمر الذي صب في زيادة أرصدة فصائل بعينها بشكل قياسي.

وهكذا أضاع الشعب الفلسطيني كل منجزاته وبدل من أن تدخل إسرائيل في مأزق باحثة عن حل سياسي، وجد الفلسطيني نفسه يدخل في عنق زجاجة ويبحث عن حل سياسي.

وترجح النخب الفلسطينية، الحاجة إلى انتفاضة متدرجة ومتدحرجة، فالصور التي يتم تداولها إعلاميا هذه الأيام، تعيد تظهير حقيقة الصراع بعد أن اختلت الصورة بفعل المفاوضات التي أظهرت أن هناك سلطتين تتفاوضان على قطعة أرض وتحاولان إيجاد حلول ولا داعي لضغط أو تدخل دولي، الآن يتم إعادة تظهير الحقيقة أن هناك شعباً تحت الاحتلال ودولة احتلال تصر على استمرار في السيطرة القسرية وتدنيس المقدسات.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
وقف نار غير مشروط في غزة بوساطة مصرية
تل أبيب ترفض التهدئة وتستدعي قوات الاحتياط
مصير الانتخابات الفلسطينية يحسم اليوم
استطلاع: «فتح» تتفوق على «حماس» والبرغوثي يفوز بالرئاسة
المقدسيون مدعوون للانتخابات عبر مراكز البريد
مقالات ذات صلة
حرب غزة وأسئلة النصر والهزيمة! - أكرم البني
أيضاً وأيضاً: هل يتوقّف هذا الكذب على الفلسطينيّين؟ - حازم صاغية
لا قيامة قريبة لـ«معسكر السلام» - حسام عيتاني
إعادة اختراع الإسرائيليّة والفلسطينيّة؟! - حازم صاغية
... عن مواجهات القدس وآفاقها المتعارضة - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة