الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون ثاني ٢, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
صلاح عيسى الصحافي اليساري الشريف - مكرم محمد أحمد
برحيل الكاتب الصحافي النابه صلاح عيسى الذى عاش معظم حياته العملية ناقدا ومعارضا ينتمي إلى فصيل نادر من اليسار الوطني الذي أحسن قراءة تاريخ وطنه، وأدرك أهمية تضافر كل قواه السياسية والاجتماعية من أجل تحرير إرادة الوطن وتحقيق التقدم، تفقد الصحافة المصرية واحدا من ملاحيها الكبار الذين عرفوا عن يقين أن الصراع الطبقي فى غير أوان يفسد وحدة الوطن ويعطل مسيرته، وأن العدل الاجتماعي ينبغي أن يكون جزءا لا يتجزأ من مسيرة التقدم كى لا تبدد القوى الوطنية جهدها فى غير طائل!، وأن أبناء العمال والفلاحين والطبقة الوسطى الذين تحرروا من ذل الحاجة هم الذين سوف يصنعون تاريخ وطنهم. وعلى مدى سنوات عديدة، انتهج صلاح عيسى فكرا ناقدا معارضا، يكتب بقلمه الرشيق ما يجمع بين السياسة والتاريخ عن أحداث متنوعة من تاريخ مصر، يدلنا بمهارة فائقة على دروسها المستفادة، كما كان يكتب عن صور متعددة من واقعنا المعاصر، يجمع فى كتاباته بين عقلية المفكر ورؤية الباحث وأمانة المؤرخ وحسن تدقيقه إضافة إلى ذكاء مرح نفاذ، يحسن ضبط اللحظة المناسبة التى تمكنه من الوصول إلى كبد الحقيقة، ولعله أهم المؤرخين الاجتماعيين الذين رصدوا فى كتاباتهم حال الثقافة والمثقفين المصريين وواقع الصحافة والصحافيين المصريين والعرب فى كتابه الشائق « تباريح جريح» الذى أهداه لذكرى ناجي العلي، وأرخ فيه على نحو شائق لحياة الشاعر أحمد فؤاد نجم ليروى لنا تفاصيل العلاقة بين السلطة والرأي فى سباقهما وصراعهما على كسب وعي الإنسان أو استلابه، وفى إطار هذا الصراع المستمر اشتبك صلاح عيسى مبكرا مع نظام عبدالناصر عام 66 فى تجربة قادته إلى غياهب المعتقل، تعرض فيها صلاح لأشد صور التعذيب قسوة، ورغم قسوة التجربة ومرارتها انتصر صلاح عيسى لحكم عبدالناصر لأنه كان يعتبـر التزام عبدالناصر بالعدل الاجتماعي جزءا لا يتجزأ من مسيرة الحكم والتقدم، تشكل واحدا من الثوابت المهمة التي تضمن الاستقرار لمصر. وما من شك أن تجربة صلاح عيسى التى قضاها باحثا اجتماعيا فى عدد من الوحدات الاجتماعية فى الريف المصري فى نهاية خمسينيات القرن الماضي قبل أن يعمل بالصحافة، وتعرفه على الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة فى ريف مصر هى التى مكنته من أن يكون جزءا من هذا الفصيل النادر من يسار مصر الذى أحسن قراءة تاريخ وطنه، وجعلت منه واحدا من أهم المؤرخين الاجتماعيين الملتزمين بفكرة العدالة الاجتماعية أساسا للحكم الرشيد. 

أعرف صلاح عيسى عن قرب منذ سبعينيات القرن الماضى، وتربطنا معا وشائج قوية منذ أن جمعتنا مهنة الصحافة، وانشغلنا سويا بالعمل النقابي دفاعا عن حق الصحافة في الحرية والاستقلال، وفصلنا الرئيس السادات سويا ضمن 70 صحفيا لأنه تصور خطأ أننا جزء من حركة اعتصام طلاب جامعة القاهرة، ولم يكن ذلك صحيحا، ورفضنا سويا ومعنا آخرون عرضا بالهجرة للعمل في العراق بدعوة من صدام حسين، وآثرنا أن نبقى فى مصر، نواجه الحكم بشجاعة وندافع عن حقنا في أن نعود إلى صحفنا، نواجه المسؤولين في جميع مواقع الحكم نسألهم عن مبررات الفصل وأسبابه، ونطالب الرئيس السادات بضرورة إحالة القضية إلى القضاء أو المدعي الاشتراكي إلى أن تمكنا من العودة إلى صحفنا قبل أيام معدودة من حرب أكتوبر المجيدة. 

اختار صلاح عيسى موقعه كاتبا موهوبا مشاغبا يعمل ضمن مجموعة اليسار في صحيفة الجمهورية لكن علاقتنا استمرت دائما قوية، وفي حالة حوار مستمر لم ينقطع أبداً سوى أسابيع محدودة لخلاف فى وجهات النظر حول سبل تنظيم الصحافة وضبط قوانينها، لكن صلاح عيسى كان دائما من أوائل من ينتصرون لحرية الرأي والتعبير وضرورة استقلال الصحافة عن السلطة التنفيذية، ويكاد يكون الفارق الأساسي بيناً أنني لا أؤمن كصحفي بالانتماء العقائدي أو الحزبي وأرى فى هذا الانتماء قيدا مضافا على حرية الصحافي، وكما انتصر صلاح عيسى لحرية الرأي واستقلال الصحافة وضرورة العدل الاجتماعي أساسا للحكم الرشيد، انتصر لحق الفلسطينيين في دولة مستقلة عاصمتها القدس، ولم ينتصر لأي من أفكار وخطط حماس ولم يقبل بمبررات انفصالها الجغرافى والعقائدي عن فتح ودافع عن عرفات واعتبره رمزا لأمته في قدرته على الربط بين الانتفاضة والتفاوض.

رحم الله صلاح عيسى صحافيا يساريا شريفا أدى واجبه تجاه وطنه ومهنته، أضاف قدر ما استطاع لكنه أبدا لم يتنكب الطريق الصحيح.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة