تتعامل موسكو، بالتحالف مع أنقرة وطهران، مع المؤتمر المنوي عقده في سوتشي على أنه استكمال لمسار آستانة. هكذا أيضاً يُنظر على نطاق واسع للدعوة إلى سوتشي، أي بصفتها بسطاً للهيمنة الروسية على المسار السياسي بعد تحقيق الانتصار العسكري وحصر الفصائل الباقية في ما يسمى "مناطق خفض التصعيد". المناطق المعنية هي بحكم المحاصرة، وبعضها لم ينل من الهدنة سوى الاسم، ولا تخفي موسكو نيتها السيطرة على جميع المناطق في النهاية، سلماً أو حرباً.
مفاوضات جنيف غير بعيدة أيضاً من تلك التأثيرات، على رغم ما ظهر أخيراً من تجاذب بين جنيف وسوتشي. المبعوث الأممي ديمستورا كان في أكثر من مناسبة قد أبلغ المعارضة أنها خسرت المعركة، وأبلغها أنها باتت بلا سند خارجي، وأنه يتعين عليها تقديم التنازلات المطابقة للواقع الميداني، لا يقلل من وقع هذه الضغوط استخدامه لغة ديبلوماسية عندما يطالب المعارضة باجتراح حلول إبداعية!
موسكو، التي تعمل على سلة متكاملة، كانت في خضم تحضيراتها لمؤتمر سوتشي قد شرّعت اتفاقيتها مع تنظيم الأسد من أجل وجود مستدام في قاعدتي طرطوس وحميميم، إذ تنص الاتفاقية على بقاء القاعدتين تحت السيادة الروسية مدة نصف قرن قابلة للتجديد تلقائياً. وقد يكون أحد أوجه سوتشي إضفاء شرعية على بقاء الأسد من أجل إضفاء شرعية على اتفاقية الاحتلال الروسي، إلا أن الأوجه الأخرى، من كتابة دستور يستلهم الدستور الروسي وتصورات إنهاء الحرب، هي مستوحاة من الحل الشيشاني بحذافيره، من دون أدنى اعتبار لخصوصية الوضع السوري، أو لكلفته المحتملة على موسكو مستقبلاً في حال تغيرت المعطيات الحالية.
السلة الروسية تتضمن إقرار الهزيمة من خلال مسار آستانة، وتوقيع صك الاستسلام النهائي في سـوتشي، ومن ثم وضع الغرب وبعض القوى الإقليمية أمام هذا الواقع الذي يصعب تغييره. القوى التي فوّضت موسكو بالإشراف على الوضع الميداني، أو تلك التي تشاركها السيطرة على أجزاء من سورية، لم يعد في وسعها اعتراض القاطرة الروسية. لا أحد يتوقع تكرار السيناريو الأفغاني في ظل الانكفاء الأميركي، والقواعد العسكرية الروسية كفيلة باتباع سياسة الأرض المحروقة عند الضرورة، بما في ذلك ما يُرى تحطيماً ضرورياً لانتزاع تنازلات إضافية.
المعارضة التي قبلت، ولو كارهة، المضي في مسار آستانة أو الموافقة عليه ترفض اليوم تتويجه بسوتشي. البلطجة الإعلامية الروسية، وقبلها بلطجة رئيس وفد الأسد في جنيف، لا تخفيان الطموح إلى استبعاد المطالبين بانتقال سياسي من المفاوضات كلها، وعلى المسارات كافة. واحد من مآزق المعارضة اليوم أنها تريد من آستانة قطف ثمار تجميد الوضع الميداني، وتريد من جنيف ثمار تفاهمات دولية تجاوزها الواقع أو تخلى عنها أصحابها. ومن مسؤولياتها أيضاً أنها لم تفرّق سابقاً بين الجانبين العسكري والسياسي، وكان كبير مفاوضيها في إحدى جولات جنيف قائداً لفصيل عسكري. بل لقد ارتكبت المعارضة خطأ فادحاً عندما لم يولِ وفدها في جنيف قضية المعتقلين الأهمية المستحقة، وتُركت لمسار آستانة لتبدو كأنها قضية أسرى حرب، مع أن غالبية المعتقلين هم من المدنيين أو الناشطين السلميين وعدد أسرى الحرب بين مختلف الأطراف لا يشكل سوى نسبة ضئيلة منهم.
جدير بالذكر أن هيئات المعارضة التي تصفها موسكو بالراديكالية لم تعترف بحقيقة مسار آستانة بوصفه عملية غايتها تنظيم الخسارة، واكتفت بالنظر إليه كعملية تهدف إلى تخفيض منسوب القتل، متناسية أن في صلب غايات نهج الإبادة الوصول إلى لحظة الاستسلام. ضمن هذه المخاتلة، لم يؤسس خطاب المعارضة لفصل بين مسار عسكري انتهى، أو لا تمكن استعادة فعاليته إلا وفق مصالح خارجية، ومسار ديموقراطي أُنهك أيضاً لكن ليس من طبيعته الاستسلام على منوال المهزومين في المعارك العسكرية. ثمة شجاعة غائبة من أجل نعي الخيار العسكري بعد سنة من الإجهاز عليه رمزياً في مدينة حلب، ومن أجل الاعتراف باستحالة أن يكون ما آل إليه من جيوش شبه نظامية باهظة المتطلبات خياراً يملك هامش حرية كقرار مستقل، وقبل ذلك كله شجاعة القول بأن خسارة هذا النوع من الحرب أهون من استمرار كلفتها الفادحة من الأرواح ومن عيش المدنيين في المناطق المحاصرة.
نظرياً، يصحّ التساؤل عما يبقى للمعارضة إذا نأت بنفسها عن مسار آستانة، لكن هذا التساؤل يهمل الضريبة المطلوبة لترسيم الهزيمة، واستخدام مناطق خفض التصعيد للابتزاز السياسي قبل الإجهاز عليها. ثم إن اختزال حقوق السوريين بتجربة أخفقت واختلطت بصراعات غير وطنية ينذر بالتنكر لها، ولأي استئناف للقضية السورية بنهج مختلف. كذلك هو شأن التعلق بأوهام الخيار العسكري الذي تم اختباره، إذ يصبح عائقاً أمام أنواع أخرى من المقاومة، بما فيها مقاومة عسكرية من نوع آخر قد تنشأ لاحقاً بحكم بقاء الاحتلال الداخلي والخارجي، وهناك الكثير من الأمثلة والتجارب التي تغني عن اختزال آفاق الحالة السورية بما حدث حتى الآن.
بالطبع الفصل بين آستانة وتوقيع صك استسلام في سوتشي لا يُنجز بمجرد رفض التبعات السياسية للواقع الميداني، وسيكون من الصعب على المعارضة بوضعها الحالي الوقوف في العراء لثلاثة أسباب متكاملة، هي الخسارة الميدانية والتخلي عنها من قبل قوى دولية وإقليمية مؤثرة، وأخيراً فقدانها قوتها التمثيلية بسبب طول المراهنة على الوضع الميداني وقوى الخارج الداعمة له.
على نحو خاص، لا تستطيع المعارضة موازنة الخسارة الميدانية والتغطية الخارجية من دون حيازة صفة تمثيلية أوسع مما سبق، وضمن ما تسمح به ظروف الشتات السوري. وإذا كان مطلب توحيد المعارضة في حكم المستحيل فمن غير المفهوم وجود هيئات متعددة ومنفصلة يُفترض أنها أنشئت لخدمة أهداف الثورة، مثل المجلس الوطني وائتلاف قوى الثورة والهيئة العليا للتفاوض، قبل أن تضم الأخيرة أعضاء يجاهرون بالتمسك ببقاء الأسد، وما يستعصي على الإدراك المنطقي عملُ هذه الهيئات كحلقات ضيقة مغلقة تجاه مجتمع الثورة نفسه.
ربما أصبحت معالجة هذا الوضع الشاذ في حد ذاتها ثورة. |