يمكن قول أشياء كثيرة عن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الخاص بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وتالياً نقل السفارة الأميركية إليها، كوصمه بالرعونة، والخفّة، والبلطجة وحتى بالنظرة الاستعلائية أو العنصرية، أو وصمه بافتقاد الحكمة والعقلانية والسياسة وقيم المساواة والعدالة، بيد أن كل ذلك لا يمنع من رؤية بعض المسؤولية التي تقع على عاتق القيادة الفلسطينية، أو لا يحول دون ذلك، ليس من مبدأ جلد الذات، وإنما من مبدأ مراجعة الطريق الذي انتهجته هذه القيادة، ووضعت فيه جميع رهاناتها على عاتق الولايات المتحدة.
وبغض النظر عن هذا الرئيس أو ذاك، أو مع كل التفاهة المتمثلة في شخصية ترامب، فإن تاريخ السياسة الأميركية في المنطقة يؤكد انحياز الولايات المتحدة، اللامحدود، والفاضح، لمصلحة إسرائيل، منذ قيامها، قبل سبعة عقود. والمعنى أن ما فعله ترامب ليس جديداً، ولا طارئاً، إذ لطالما عرفت الولايات المتحدة حليفاً استراتيجياً لإسرائيل، بواقع دعمها لها مالياً وعسكرياً وسياسياً، وبحكم علاقات التعاون الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي التي تربطها بها، إضافة إلى تغطيتها مواقفها السياسية الاحتلالية والعنصرية، في المحافل الدولية، وفوق كل ذلك ضمانها أمنها وتفوقها، في المنطقة، على صعدة كافة.
وفي الحقيقة، فإنه لا توجد سيرة لرئيس أميركي أنصف الفلسطينيين، أو اتخذ مواقف تضغط على إسرائيل لحملها على الاستجابة لمتطلبات السياسة الأميركية أو مراعاتها، باستثناء لحظتي الضغط التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من سيناء، في حرب 1956، وذلك لمصلحة أميركية بحت، والضغط، بالقروض الأميركية، من أجل دفع إسرائيل إلى مجرد المشاركة في مؤتمر مدريد لـ «السلام» (1990)، بغض النظر عن تلبيتها متطلبات الحد الأدنى من السلام، والتي لم يتورّع يومذاك إسحق شامير (رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك) بالقول أن التسوية ستحتاج إلى عشرين سنة مفاوضات (علماً أنها احتاجت أكثر وما زالت)، وتأكيده أن إسرائيل تذهب إلى التسوية وفقاً لشروطها.
هكذا، فباستثناء المثالين المذكورين فإن الولايات المتحدة ظلت باستمرار تحابي إسرائيل في شأن الاستيطان والسياسات المتعلقة بتهويد القدس ومصادرة الأراضي، وتغيير معالم الأراضي المحتلة، وعلى رغم تنصلها من قرارات مجلس الأمن الدولي التي تقضي بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، على رغم بعض تصريحات شكلية، من بعض أركان إداراتها التي تتحدث عن عدم رضاها عن بعض تلك السياسات.
السؤال الآن، موجه إلى القيادة الفلسطينية: فإذا كانت الولايات المتحدة مكشوفة إلى هذا الحدّ، فعلى أي أساس راهنت عليها، كراع نزيه أو كوسيط محايد، وكضامن، لعملية السلام؟ ثم لماذا استمر هذا الرهان أكثر من ربع قرن؟ وربما يجدر التنويه هنا إلى أن هذين السؤالين لا علاقة لهما بأي استنتاج يفضي إلى الطلب من القيادة الفلسطينية معاداة الولايات المتحدة، إذ إنها ليست على شاكلة الدولة عندنا، حيث لا مواطنة ولا مجتمع مدني، وإنما مجرد سلطة تتحكم في كل شيء، إذ يجدر بخصوصها التمييز بين الإدارة، في كل مرحلة، وبين مجتمع الأميركيين، أو القوى الفاعلة أو المحركة في هذا المجتمع، في السياسة والثقافة والأكاديميا والفنون والاقتصاد والعلوم والشركات. كما لا يعني ذلك أن على هذه القيادة أن تشن حرباً على إسرائيل، إذ إن ذلك ليس معقولاً، فضلاً عن أنه ليس بمستطاعها ذلك، بخاصة في ضوء تجربة عمرها أكثر من نصف قرن، وآخرها تجربة الانتفاضة المسلحة (2000 - 2004).
عدا عما تقدم فإن القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و «فتح»، تتحمل مسؤولية عن القرار الأميركي، ليس لأنها تستطيع أن تفعل شيئاً ضد الولايات المتحدة، بل لأنها، عملت ما ليس ملائماً لها، ولا لشعبها، أن تفعله. مثلاً، هي، أولاً، قبلت تأجيل البتّ بقضية القدس (مع قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود)، في اتفاق أوسلو (1993)، وهذا أفسح المجال أمام إسرائيل لفرض الأمر الواقع، بحكم قوتها، وبواقع سيطرتها على أراضي الفلسطينيين. ثانياً، لأنها عندما أبرمت اتفاق أوسلو لم تستند إلى مرجعية القرارات الدولية، أي قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة والهيئات المتفرعة عن الأمم المتحدة، المتعلقة بالقضية الفلسطينية، إذ إنها قبلت بأقل من ذلك، علماً أن هذه القرارات كان يمكن أن تغني، ولا زالت، عن عملية المفاوضات العقيمة التي تخضع لتلاعبات إسرائيل، وتهرّباتها. ثالثاً، لنفترض جدالاً أن القيادة الفلسطينية تسرّعت في مراهنتها على الولايات المتحدة في عملية التسوية، لكن مفاوضات كامب ديفيد 2 (2000) كشفت انحيازها إلى إسرائيل، بقبولها تملّصها من قضايا الحل الانتقالي، ودعمها إملاءاتها التي تجحف بحقوق الفلسطينيين في قضايا الحل النهائي.
وعلى مر ربع قرن ظلّت الإدارات الأميركية تشدّد ضغطها على الفلسطينيين، وتتسامح مع إسرائيل، إلى درجة أنها تناست رفضها لخطة «خريطة الطريق» التي كان طرحها الرئيس بوش الابن (2002)، على رغم تنفيذ الفلسطينيين الاستحقاقات المطلوبة منهم فيها، والذين طالبتهم بالمزيد. رابعاً، المشكلة، أيضاً، أن القيادة الفلسطينية عندما دخلت عملية التسوية لم تطرح السقف الأعلى المتمثّل بقرار التقسيم (181، لعام 1947). مثلاً الذي يتضمن إقامة دولتين، إسرائيل وفلسطين، مع فرض وصاية دولية عل القدس، ونوع من علاقات اقتصادية، بل إنها ذهبت إلى أقل من ذلك، بحيث أضحت أراضي الضفة (المحتلة عام 1967) موضع نزاع على الأراضي، بين الطرفين، بخاصة مع تجزئتها إلى مناطق أ وب وج.
باختصار، يمكننا أن ندين وأن نشجب وأن نرفض القرار الأميركي الذي لن يغير حال الفلسطينيين في صراعهم مع إسرائيل، لكن يجدر بنا، إلى جانب كل ذلك، أن نتوقف ولو مرة واحدة عند مسؤوليتنا نحن عن الخيارات والسياسات التي ننتهجها، أو تنتهجها قياداتنا.
|