لو اندلعت التظاهرات في إقليم كردستان قبل سنوات، لكان سهلاً ضمُّها إلى موجة الربيع العربي. تعاطي قيادات الإقليم مع التظاهرات قد يغري بالمقارنة بتعاطي الأنظمة العربية، إلا أن التظاهرات «من ضمن عوامل أخرى» تغري أكثر بالنظر إليها كدلالة على تفسخ الوضع الداخلي من ضمن تداعيات فشل مشروع الاستقلال. قد تدعم التظاهرات حجة من رأوا في مغامرة الاستقلال هروباً من استحقاقات داخلية، إلا أن ما تبع الاستفتاء كان أكبر وأشد من مجرد الرد عليه، وهو أشبه بإعادة الإقليم إلى أيام الحظر الجوي في عهد صدام حسين، مع تجريده من المكتسبات التي راكمها بعد إسقاطه.
حتى أشهر قليلة خلت، كان يمكن الظن بأن الربيع العربي أتت ثماره كردية. ففي بلدين عربيين، هما سورية والعراق، كانت الأمور تسير نحو الإجهاز على الثورة في الأول، وإعادة إحكام السيطرة على المكون السني في الثاني. بينما كانت قوة الأمر الواقع الكردية في سورية تتقدم لتحظى بدعم أميركي، إلى جانب تحالفها مع النظام وطهران موسكو، وفي العراق تقدمت قوات البيشمركة للسيطرة على المناطق المتنازع عليها، وصولاً إلى الإعلان عن الاستفتاء على الاستقلال.
على الجبهة الكردية، ازدهر الرأي القائل بإمكان استغلال الصراعات الداخلية لمصلحة المشروع الكردي. ضمن هذه البراغماتية، التي تبدو مبرَّرة لأسباب حقيقية ومصطنعة، أتى التحالف مع سلطتَيْ طهران في سورية والعراق مبرراً أيضاً، وانعدم النقاش حول أخلاقيته، أو حول جدواه على المدى البعيد.
أبعد من ذلك، اتجهت المسوغات لتأخذ طابعاً بنيوياً تجسده أسئلة من نوع: إذا كان قدر الثورات العربية التعفن بين استبداد الأنظمة واستبداد التطرف الصاعد، فلماذا لا ينجو الأكراد المتمايزون عن الطرفين؟ وإذا كان كلٌّ من الطرفين لا يعِد الأكراد بمستقبل أفضل، فما وجه المفاضلة بينهما كردياً؟... أسئلة تتجه عموماً إلى وصم العرب بعنف وإرهاب وبعثية، كلها ذات طابع بنيوي غير قابل للتبديل. وفي النقيض منها ستبرز الإشادة بالقيادات الكردية دونما تمييز، وفي خلط بين حق أصيل وتجليات سياسية قابلة للخطأ والصواب وللنجاح والفشل، وربما يكون بعضها قابلاً لطعن حقوق الأكراد عن وعي وتصميم.
بالاستسهال الفكري ذاته، من جانب أكراد وحتى عرب، وصم عربٌ مناهضون لسلطات البلدين ولـ «داعش» إما بـ «الدعشنة» أو بالبعثية. على المقلب الكردي، كانت صور المقاتلات الكرديات في سورية نقيضاً زاهياً، مع الصمت أو الجهل إزاء تجنيد قاصرات ومقتلهن بخلاف رغبة ذويهن وبخلاف الأعراف والمواثيق الخاصة بالأطفال. كانت حملات التجنيد القسري تمضي بمباركة صور المنتصرين على «داعش»، مع صمت أو جهل إزاء موجات النزوح الكردي من معاقل تلك الميليشيات، قبل الصمت والتجاهل إزاء مصير ووضع المناطق التي حررتها.
في إقليم كردستان أيضاً، ظهر الإقليم على النقيض من عراق المالكي، من دون النظر في تقاسمه بين سلطتي أربيل والسليمانية المتنافستين، ومن دون التفكر في الميليشيات المسيطرة على جبال قنديل بأجندتها المختلفة عن طموحات الأهالي المحليين والمرتبطة إلى حد كبير بالحليف الإيراني، أو الانتباه إلى القوى السياسية الناشئة ومنها القوى الإسلامية. فوق شبهات الفساد هنا وهناك، يجوز الزعم بأن المكانة المعنوية لزعامة بارزاني لم تكن راسخة سياسياً عشية الاستقلال، باستثناء الاتفاق العام معه على حلم الدولة، الحلم الذي تفترق المصالح قبل تحققه.
سورياً وعراقياً، كان ثمة أمل كردي كبير باستثمار الحرب على «داعش» لمصلحة القضية الكردية، أمل يناقض استخدام التنظيم نفسه لوأد تطلعات سوريين وعراقيين. الأمل بدا ممكناً من خلال التحالف مع القوى العظمى، ومن خلال التحالف مع سلطات البلدين في لحظة ضعفهما. بقوة الحرب والأمل فقط، كبر الطموح الكردي إلى حد السيطرة النهائية على المناطق موضع النزاع في العراق، وإلى السيطرة على الشمال السوري كله، بما فيه مدن ومناطق شاسعة ذات غالبية عربية ساحقة، بصرف النظر عن الفوارق التفصيلية بين الحالتين.
لكن، في الواقع، لم يكن في مخططات الإدارة الأميركية توزيع المكافآت على الحلفاء، فهي أولاً ترى في «داعش» خطراً مشتركاً على الجميع، وتالياً لا تريد التورط في مشاكل المنطقة الأخرى. سيكون من المفيد استرجاع محاولة إدارة أوباما بناء ميليشيا من عرب سورية لقتال التنظيم، حيث اشترطت على المقاتلين توقيع تعهد بعدم قتال قوات بشار. هذا هو نموذج الانكفاء الأميركي عن قضايا المنطقة وقد استمر مع الإدارة الحالية، وإذا كانت السياسة عموماً لا تعترف بتحالفات ثابتة فهذا المبدأ مورس مؤخراً برعونة وخفة أفقدا الإدارة الأميركية صدقيتها خارجياً وداخلياً.
وكي لا نعلّق الإخفاق على عاتق السياسات الأميركية، لا بأس في استعراض الأسئلة المقابلة لما سبق. أكان وارداً مثلاً أن تتخلى طهران عن جزء من هيمنتها على العراق بعد الانتهاء من «داعش»، بخاصة مع حساسيتها إزاء الموضوع الكردي؟ وهل كان من المنتظر أن تدعم واشنطن الأكراد ضد طهران مع رسوخ نفوذ الأخيرة في العراق، بينما فوتت واشنطن أثمن فرصة لمحاربة النفوذ الإيراني انطلاقاً من سورية؟ فضلاً عن ذلك، ألا يتفق الظن بوجود عداء أميركي جوهري للمركّب (العربي السني) يمكن استثماره كردياً مع أيديولوجيا «داعش» التي تشرب من النبع نفسه؟
قد لا يُلام الأكراد على حسابات خاطئة وقع فيها جميع المهزومين في السنوات الأخيرة، لكن (بتفحص حالة المهزومين معاً) يزداد ثقل الخسارة مع إحساس كل طرف بالخذلان نتيجة الحروب في ما بينهم، أو نتيجة استخدام هذه الأطراف كأدوات لقوى خارجية. التربة جاهزة لتبادل الشماتة بين المهزومين، وهذا أيضاً ما تراهن عليه قيادات تتملص من مسؤوليتها عن الخسارة. قبل سنوات، لم يكن الحديث بمنطق تلازم الحرية لكافة شعوب ومكونات المنطقة ليؤخذ سوى على محمل الأماني المنفصلة عن الواقعية السياسية. اليوم، مع الارتدادات السلبية للهزائم، لا يُتوقع أن يكون حظ الدعوة إلى الاستفادة من الدرس أفضل مما سبق، ولا يُستبعد أن نراوح زمناً إضافياً بين أنظمة لا ترحل إلا مرغمة و «نُخب» سياسية لا تتعلم إلا بعد أن لا يبقى أمامها خيار آخر.
|