قصة إبراهيم أبو ثريا (29 سنة)، من مخيم الشاطئ للاجئين في غزة، المقطوع الساقين، نتيجة تعرضه لقذيفة إسرائيلية إبان الحرب الأولى التي شنّتها إسرائيل على القطاع (2008)، هي ذاتها قصة فلسطينيي غزة، بل وقصّة الفلسطينيين كلهم في مواجهة إسرائيل، إذ قضى أبو ثريا (يوم الجمعة الماضي)، المُقعد، في الاحتجاجات الحاصلة على خطوط التماس بين القطاع وإسرائيل، كتعبير عن رفض الفلسطينيين قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو يلوّح بعلم فلسطين بيد وشارة النصر بيده الأخرى، نتيجة رصاصة أطلقها قناص إسرائيلي يحتمي بأبراج مراقبة عالية وبسواتر وحواجز وأسلاك كهربائية.
القصة هنا، أو بالأحرى المأساة، تجسّد، أو تكثّف، حال الفلسطينيين، حيث ضعف الإمكانات وقوة الحق، وحيث العيش بين حدّي الشلل والأمل، فهذه هي حال غزة، التي تكابد الحصار المشدّد، منذ عشرة أعوام، تخلّلتها ثلاث حروب مدمرة (2008 - 2012 - 2014)، وهذه هي حال الفلسطينيين عموماً، إزاء إسرائيل، بغضّ النظر عن الشعارات الحماسية والرغبات الذاتية.
لنلاحظ هنا أن الرجل لا يستطيع أن يفعل شيئاً مؤذياً لإسرائيل، من الناحية المادية، لكنه فقط يستطيع أن يذكّرها كل يوم بوجوده، ووجود شعبه، وتالياً أن يشعرها بمسؤولياتها عن مأساته، وأن يعرّفها بهويته، وبعلمه، وأن يشعرها بالأمل الكامن في قلبه بتلويحه بإصبعي يده بإشارة النصر. في المقابل، فإن إسرائيل، من هذا الموقع، تبدو بعيدة، وغير مرئية، ومحصنة بسواتر وحواجز وجدران، ومدججة بترسانة من الأسلحة، فيما الإسرائيليون يعرفون ولا يبالون، في غالبيتهم، فهم لا يتأثرون بما يُجرى، كأنه يحصل في مكان آخر، بعيد، لا سيما أنه لا يغير شيئاً من مسارات حياتهم، فيما جيشهم يقوم بالمهمة بالطائرات وقذائف الدبابات والمدفعية، وبالصواريخ، وبرصاص الأسلحة الرشاشة، وفق الوضع على الأرض.
في هذا الإطار، تجدر ملاحظة أن الوضع اختلف كثيراً عنه في الانتفاضة الأولى، وحتى في الثانية، ففي الأولى (1987 إلى 1993)، كان ثمة تداخل كبير بين مجتمعي الفلسطينيين والإسرائيليين، في الجغرافيا والديموغرافيا، وفي السياسة والاقتصاد والأمن، لذا فعندما حدثت الانتفاضة أثرت كثيراً في المجتمع والدولة الإسرائيليين، واستطاعت أن تؤثر في المزاج العام الإسرائيلي، وأن تثير التناقضات في صفوف الإسرائيليين، الأمر الذي نتج منه تراجع حزب «ليكود»، وتزايد وزن التيارات المؤيدة لتسوية مع الفلسطينيين، وهو ما تم حله في اتفاق أوسلو (1993)، الناقص والمجحف، الذي حل مشكلة لإسرائيل ولم يحل أية مشكلة للفلسطينيين. هكذا ففي الانتفاضة الثانية حدث مثل ذلك التأثير، ولكن في شكل مختلف، فتلك الانتفاضة التي غلب عليها طابع العمليات المسلحة، وضمنها العمليات التفجيرية، التي أوجعت الإسرائيليين، وحّدتهم في مواجهة الفلسطينيين، ما نتج منه إعادة احتلال مناطق السلطة، وتعزز مكانة التيارات اليمينية القومية والدينية في إسرائيل، فضلاً عن أنها غطت على بطش إسرائيل بهم، وسهلت لها التملص من التزاماتها المنصوص عنها في اتفاق أوسلو.
بيد أن أهم تغيّرات حصلت بعد الانتفاضة الثانية، ويجدر تفحص تأثيراتها وتداعياتها على كفاح الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، تمثلت في الجوانب المهمة الآتية:
أولاً: عزل القدس عن الضفة، من خلال تعزيز الأنشطة الاستيطانية فيها، والحد من قدرة فلسطينيي الضفة على الوصول إليها (عبر إقامة الحواجز العسكرية وتحديد الفئات العمرية)، ومن خلال إنهاء وجود السلطة الفلسطينية فيها، بإغلاق «بيت الشرق»، وكل الجمعيات أو المؤسسات التي تتبع لها.
ثانياً: قيام إسرائيل ببناء الجدار الفاصل، منذ عام 2002، الذي وضعت عبره كل المدن والتجمعات الفلسطينية داخل معازل، مع جدران عالية، كما قامت ببناء جسور وأنفاق وطرق التفافية خاصة بالمستوطنين، وهي في كل ذلك استطاعت تخفيف احتكاك الفلسطينيين بالإسرائيليين في الضفة (مستوطنين وعسكريين)، إلى أقصى حد ممكن، وفقاً لشعار: «نحن هنا وهم هناك»، بحيث لم يعد الإسرائيليون يرون الفلسطينيين، كأن كل جماعة منهم تعيش في بلد آخر، وهو الأمر الذي جعل من انتفاضات الفلسطينيين، أو تظاهراتهم واعتصاماتهم وكل أشكال التعبير عن غضبهم وعصيانهم، كحرق الدواليب، مثلاً، غير مرئية ولا تصل إلى مسامع الإسرائيليين، لا في مناطق 1948 ولا في الضفة.
ثالثاً: ما حصل في الضفة حصل في غزة أيضاً، إذ قامت إسرائيل بانسحاب أحادي بالخروج منها، تماماً كما خرجت من مدن الضفة، بمعنى أنها استعاضت عن الاحتلال بمجرد حصار القطاع من كل الجوانب، وترك حوالى مليوني فلسطيني فيه لتدبّر أمورهم، في منطقة نادرة الموارد، ومرتهنة لإسرائيل في مجال إمدادات الكهرباء والمياه والطاقة، وذات اعتمادية عالية على المعابر الإسرائيلية في المواد التموينية، لا سيما مع الإغلاق المستمر لمعبر رفح. هكذا بات ما يُجرى في القطاع كأنه يُجرى في بلد آخر، أو قارة أخرى، مع احتفاظ الجيش الإسرائيلي بسياسة «اليد الطويلة» لضرب غزة، بين فترة وأخرى، وهو ما حدث في ثلاث حروب في غضون سبعة أعوام (بين 2007 و2014).
ولعل كل ما تقدم يفسّر أن الهبّة الشعبية الحاصلة، وكما حصل في هبّة تموز (يوليو) الماضية (والهبات المتفرقة منذ العام 2014) أتت على شكل اشتباكات محدودة في نقاط تماس المدن الفلسطينية مع المواقع العسكرية الإسرائيلية، وعند المعابر، وهو ما يحصل عند معبر قلنديا، الواصل بين القدس ورام الله، وعند مسجد بلال (أو قبر راحيل) في بيت لحم، والنقطة الاستيطانية في قلب مدينة الخليل، وعند الحدود بين غزة وإسرائيل، وهو ما يفسر أن أكثر نقاط الاحتكاك والاشتباك بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي في القدس الشرقية.
رابعاً: هناك جانب آخر تفترض ملاحظته، على نحو جيد هنا، هو الواقع السياسي والمجتمعي الجديد الناجم عن قيام السلطة الفلسطينية، فثمة حوالى ربع مليون من الفلسطينيين يعيشون من دخلهم كموظفين في أجهزتها الإدارية والخدمية والأمنية، والذي يأتي من الدول المانحة لعملية «السلام»، وهؤلاء ترى غالبيتهم في الواقع القائم نمط حياة من الصعب تغييره، لا سيما في الظروف العربية والدولية الراهنة، وغير المواتية. فوق ذلك، ثمة أيضاً العقيدة التي نشأت عليها الأجهزة الأمنية، التي ترى أن وظيفتها منع، أو كبح أي حراك شعبي ضد إسرائيل، كما حصل في مرات عديدة، باعتبارها له نوعاً من تحدي السلطة الفلسطينية ذاتها.
خامساً: يفاقم من كل ما تقدم تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة، وانتهاج القيادة الفلسطينية خياراً أحادياً يتمثل في المفاوضة من أجل إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، على رغم مرور ربع نحو ربع قرن على إفلاس هذا الخيار، كما تمثل في اتفاق أوسلو، وتقويض إسرائيل إياه، بتهربها من التزاماته. والمعنى أن غياب قيادة حركة تحرر وطني، وترهل البنى الوطنية الفلسطينية يجعلان من قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة أمراً في غاية الصعوبة، أو يحتاج إلى ظروف فلسطينية وعربية ودولية أخرى.
هكذا، وباختصار، يمكن القول إن الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الثالثة لا تحتاج الى إذن من أحد حتى تأتي، وأنها بالتأكيد لن تأتي بكبسة زر، ولا بدعوة من هذا الفصيل أو ذاك، ولا من هذا القيادي أو غيره، وإنما هي تحتاج إلى الظروف الذاتية والموضوعية المناسبة.
والقصد أن تعذّر انتفاضة ثالثة لا يقلل من الأهمية الكفاحية للهبات الشعبية المتفرقة، على رغم محدوديتها في الزمان والمكان والوسائل، ولا يقلل من الروح الوطنية للفلسطينيين، ولا من استعدادهم الدائم للتضحية في سبيل حقوقهم، ولكنه يفيد بأن الفلسطينيين الذين اجترحوا الانتفاضة الشعبية الأولى، التي كانت الأكثر تعبيراً وتمثلاً لخبراتهم النضالية، ولإمكاناتهم، وللواقع المحيط بهم، هم الأكثر قدرة على تحديد ما يمكنهم فعله، بمعزل عن استدعاء هذا الفصيل أو ذاك لانتفاضة ثالثة، وبغض النظر عن الروح الشعاراتية والرغبوية المهيمنة في خطابات قادة الفصائل، بين فترة وأخرى، وفق المناسبة.
لذا، ربما الأجدى دراسة أوضاع الفلسطينيين والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية الجارية عندهم، والعمل على تعزيز صمودهم وتطوير كياناتهم (المنظمة والسلطة والفصائل وغيرها من كيانات جمعية)، ودراسة الأشكال الأكثر جدوى لإحداث تأثيرات تخدم كفاحهم بين الإسرائيليين، وكل ذلك بدلاً من مجرد تمنّي انتفاضة ثالثة طال استدعاؤها، والتهديد بها، بالشعارات والخطابات، من دون فعل شيء مناسب من الناحية العملية.
* كاتب فلسطيني
|