ظهر الاهتمام العربي بالدراسات المستقبلية منذ أكثر من نصف قرن، ولعل الأعمال الرائدة للمفكر المغربي المهدي المنجرة، والمصري محمد إبراهيم منصور، واللبناني أنطوان زحلان تكشف عن أصالة هذا التوجه، لكنه ظل نظرياً أكثر منه عملياً، فلم تشكل فرق بحثية لهذا الغرض على نظاق واسع، وإنما ظهرت محاولات محدودة لم يكتب لها الاستمرار. عموماً، تعاني الدراسات المستقبلية العربية من التهيمش والتجاهل رغم أهمية دورها في تفادي الأزمات والكوارث وترشيد عملية صنع القرار السياسي ونمط التنمية المطلوب.
وتبرز أهمية وخطورة الدراسات المستقبلية في ضوء زيادة الاهتمام الدولي في دوائر صنع القرار وأجهزة الأمن والاستخبارات، علاوة على المنظمات الدولية بإجراء بحوث الاستشراف. والمدهش أن عدداً من أهم تلك الدراسات يتعلق بمستقبل المنطقة العربية، ما يعني أن العرب لم يمارسوا دورهم في استشراف مستقبلهم، بينما قامت قوى إقليمية ودولية بهذا الأمر. وأعتقد أننا لو كنا مارسنا فضيلة التفكير المستقبلي ورسم السيناريوات، لنجحنا في التعامل مع مشكلات وأزمات ما عرف بثورات الربيع العربي. كان من الممكن تفادي جزء من هذه المشكلات، أو التعامل مع تلك السنوات الصاخبة التي تلت الغزو الأميركي للعراق في شكل أفضل، من وجهة نظر الأمن القومي العربي والمصالح الوطنية لكل دولة عربية.
لقد تواصلت الحروب بالوكالة في سورية وليبيا واليمن وانتشرت الجماعات الإرهابية وتراجعت أسعار النفط، وظهرت دراسات استشرافية أجنبية تتوقع نهاية عصر البترول وظهور تكنولوجيات جديدة ستغير العالم وموازين القوى الجيوسياسية والاقتصادية، ومع ذلك ظل العرب أكثر اهتماماً بالماضي وصراعاته أكثر من المستقبل وتحدياته. وعلى رغم السلوك العدواني الإيراني وزيادة التدخل الروسي والتركي، واحتمالات حدوث مواجهات وحروب، وإعادة ترسيم للمنطقة، فإن العرب منشغلون باللحظة الراهنة وغير مهتمين بالدراسات المستقبلية وخصوصاً الجيوسياسية. وتكمن المفارقة في أن دولاً عربية تبنت استراتيجيات تنموية شاملة وهو توجه مطلوب لكنه لا يعني ممارسة الاستشراف، لأن المطروح هو استراتيجيات تركز على التنمية الاقتصادية والبشرية، ولا تعالج الجوانب الجيوسياسية. وثمة ترابط بين الدراسات الاستراتيجية والدراسات المستقبلية، لكن الأخيرة تظل أوسع وأبعد مدى، لأنها تركز على الإجابة عن سؤال: «ماذا يمكن أن أفعل؟»، بينما تطرح الدراسات الاستراتيجية على نفسها سؤالين آخرين هما: «ماذا سأفعل، وكيف سأفعله». لذلك يمكن القول أن الدراسات المستقبلية ترفع من كفاءة وفاعلية التخطيط الاستراتيجي... إنها باختصار توسع المستقبل أو هي مستقبل المستقبل البديل.
لا شك في أن المجال ما زال مفتوحاً أمام العرب لممارسة فضيلة التفكير والاستشراف الجيوسياسي، وربما تكون بعض الجهات الحكومية ومراكز اتخاذ القرار قد بدأته (أعلن في السنوات الأخيرة عن تأسيس عدد من مراكز الدراسات المستقبلية)، لكنها لم تنشر نتائج أبحاثها. لكن أتصور أن هناك أهمية لتعميم ثقافة الاستشراف على المستويات والتخصصات كافة، وإدراجه ضمن مناهج التعليم، وبحيث تعمل به مختلف مؤسسات الدولة، لأن توسيع قاعدة مهارات الاستشراف والحرص على ممارسته وتكوين رأي عام مهتم به، ستؤدي إلى تحسين نوعية الدراسات المستقبلية والاستفادة منها. ولا شك أن الاهتمام بممارسة الاستشراف وتعزيز ثقافة الاستشراف يتطلبان إيجاد حلول لأربع عقبات أساسية هي:
أولاً: تعتبر البيانات والمعلومات أحد أهم أدوات العمل في الدراسات الاستشرافية. من هنا، فإن عدم توافرها أو فرض درجات مختلفة من السرية عليها، يعرقل عمل الباحثين، وينزع عنه الدقة أو يحوله إلى مجرد تمارين نظرية في بناء سيناريوات للمستقبل لا معنى لها، ولا يمكن الاستفادة منها مجتمعياً. من هنا تأتي ضرورة إصدار قوانين تضمن حرية تداول المعلومات وتفعيل القوانين الموجودة في بعض الدول العربية، مع الحرص على خفض الكلفة المالية للحصول على المعلومات، وعدم التوسع في المنع تحت دعوى الحفاظ على الأمن القومي وأسرار الصناعة.
ثانياً: احترام حرية البحث العلمي واستقلاله في مجال الدراسات المستقبلية، والتي تتطلب بالضرورة طرح بدائل، ما يعني التفكير خارج الصندوق وربما انتقاد بعض السياسات القائمة ليس من منظور سياسي أو حزبي ضيق، وإنما من منظور وطني أوسع يتعلق بمخاطر تجاهل ضرورة التغيير. ولا شك في أن هذه الأمور تثير مخاوف بعض الحكومات العربية، التي قد تنظر بعين الشك في ما تطرحه الدراسات المستقبلية من سيناريوات أو بدائل. لذلك، لا بد من الثقة في جدوى تلك الدراسات، لأن ما ستقدمه من سيناريوات يساعد في تجنب أزمات، وفي تحسين عملية اتخاذ القرار السياسي وتطوير التخطيط الاستراتيجي ومواجهة التهديدات البيئية والاقتصادية والمناخية والتكنولوجية.
ثالثاً: ضمان التمويل والاستقلال للبحوث المستقبلية، حيث يتطلب أي نشاط بحثي تمويلاً كافياً غير مشروط، بحيث لا يتدخل في مسار ونتائج هذه النوعية من الأبحاث والتي تتطلب تشكيل فرق بحثية كبيرة من عدد من التخصصات، بحيث تعمل في شكل تكاملي وعابر للتخصصات. وفي هذا الصدد، لا بد من توافر خبرة وظروف العمل البحثي الجماعي وكذلك الابتعاد عن التّسيُّس أو الأيديولوجيا في بحوث الاستشراف، لأنها تؤدي إلى نتائج كارثية. وكانت دراسات استشرافية عربية قد وقعت في فخ التحيز الأيديولوجي ومن ثم طرحت سيناريوات غير واقعية بشأن الوحدة العربية، وكسر فجوة التقدم بين العرب والدول الصناعية. القصد أنه يجب الابتعاد عن المواقف المسبقة والأمنيات أو المخاوف والتحيزات الأيديولوجية. وأتصور أن الابتعاد عن الأيديولوجيا لا يعني عدم امتلاك رؤية (الرؤية أساس الاستشراف) أو إمكانية طرح سيناريوات مرغوب فيها في المستقبل، شرط أن تتسم بالعقلانية والقابلية للتنفيذ.
رابعاً: تصحيح النظرة العامة للدراسات المستقبلية باعتبارها نوعاً من التنبؤ غير الدقيق بالأحداث، بعد فشل غالببية الدراسات العربية الاستشرافية، على اعتبار أن التنبؤ ليس هو الهدف الأساسي، وإنما رسم سيناريوات وطرح بدائل قد تؤثر في تشكيل الواقع وصناعة المستقبل. بعبارة أخرى، تهدف الدراسات المستقبلية إلى وصف وتحليل الموضوعات والاهتمامات في الحياة الإنسانية من وجهة نظر مستقبلية، واكتشاف مسارات العمل والأهداف التي ظهرت أو تظهر أو ستظهر في الواقع المستقبلي، علاوة على تعزيز القدرة على طرح أسئلة أساسية للمستقبل (غير نمطية) وإيجاد إجابات لها.
في الختام، أظن أن هناك ضرورة لأن يشتغل العرب بدراسة المستقبل، وخصوصاً استشراف الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة والعالم، في ظل التغيير السريع في مصادر الطاقة والتكنولوجيا وعناصر القوة، وما يطرأ على ظاهرة الإرهاب والهجرة عبر الدول من تحولات عميقة قد تطال الدول العربية من زاوية المطالبة بحقوق العاملين الأجانب. وعلينا أن ندرك حقيقة أن التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة وفي الدراسات المستقبلية، وهو لا يأتي من الخارج وإنما من الناس الذين يعيشون داخل مجتمع محدد، ويتطلب تغيير قيم وتصورات هؤلاء الناس عن أنفسهم وعن العالم من حولهم، كما يتطلب تغيير مؤسسات الدولة وأساليب تفكيرها وعملها، وإذا لم نتغير ونفكر في التغيير واتجاهاته المستقبلية فإن التكنولوجيا قد تفرض التغيير في الاقتصاد وطرق حياة الناس وفي النظم السياسية. وللأسف الشديد فنحن كعرب لا نمتلك أسرار التكنولوجيا أو حتى قليلاً منها. * كاتب مصري |