على رغم الظاهر فإن دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لعقد مؤتمر «الشعوب» السورية، أو مؤتمر الحوار الوطني، وفق التسمية البديلة، دليل ضعف وانتكاس روسي، فالدعوة جاءت بعد فشل لعبة «المصالحات» و «التهجير القسري» و «التغيير الديموغرافي» و «مسلسل آستانة» في الإجهاز على الثورة ودفن مطالبها في الحرية والكرامة، وعلى خلفية خشية الكرملين من انكشاف العجز الروسي عن إقناع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية بالسير نحو «الحل» السياسي الذي صاغه ويسعى لتسويقه، وفقدانه السيطرة على مرحلة ما بعد «داعش»، ومواجهة استعادة جنيف لوهجه أو الدخول في حالة فراغ سياسي مديد ينذر بأخطار جمة.
فاللحظة السياسية بتعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية ضاغطة وتنذر بالكثير في ضوء وصول مسار آستانة إلى طريق مسدود، خصوصاً بعد فشل جولته السابعة بسبب رفض إيران للانتشار التركي في محافظة إدلب، الذي تم بتوافق روسي تركي، ورفض النظام السوري بحث قضية المعتقلين والمختفين والمفقودين، والفيتو الأميركي والغربي على مناقشة القضايا السياسية في جولاته، وتزامن ذلك مع تطورات ميدانية وسياسية كبيرة، من إصرار إيران والنظام على «النصر» الكامل، حديث رئيس النظام خلال لقائه مستشار المرشد الإيراني الأعلى للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي في دمشق يوم الثلثاء 7 الجاري، عن «الانتصارات» و «استمرار المعركة حتى استعادة الأمن والاستقرار لكل الأراضي السورية»، ودفع إيران النظام للقيام بعملية عسكرية شرق سكة حديد الحجاز، والتي تتوزع على أرياف حلب الجنوبي، وإدلب الجنوبي الشرقي، وحماة الشمالي الشرقي، بما في ذلك العمل على استعادة مطار أبو الضهور، وتحريضه على عدم القبول بسيطرة قوات سورية الديموقراطية على الرقة، وضبط حركة قوات النظام من قبل قوات التحالف الدولي وتحديد المناطق المسموح لها بالسيطرة عليها، وسيطرة قوات سورية الديموقراطية على حقول النفط والغاز في محافظة دير الزور، وتحفظ النظام على إجراء انتخابات رئاسية بإشراف دولي كما جاء في التصور الروسي الذي عرضه ألكسندر لافرينتييف، مبعوث الرئيس الروسي الخاص بشؤون التسوية في سورية، على رئيس النظام خلال اللقاء في دمشق، وتصاعد الجدل مع الولايات المتحدة، إن حول التمديد للجنة الدولية للتحقيق حول استخدام الأسلحة الكيماوية أو حول نتائج التحقيق الذي حمّل النظام السوري مسؤولية قصف خان شيخون بغاز السارين، ما رفع هواجس ومخاوف موسكو من نجاح الغرب في تقويض الموقع الاستثنائي الذي احتلته في هذه المنطقة ودفعها إلى الاستعجال في فرض تسوية سياسية بأسرع وقت، تضمن بقاءها ومصالحها، بالدعوة إلى عقد المؤتمر العتيد والترويج لجدول أعماله بحيث تغري الأطراف المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة فيه.
فقد طرحت في المسودة التي تحمل عنوان «ورقة مفاهيم مؤتمر الحوار الوطني» أفكاراً متعارضة بالحديث عن «مصالحة وطنية» و «إصلاح سياسي»، من جهة، وعن «تنفيذ القرار الدولي 2254»، الذي ينطوي على انتقال سياسي، من جهة ثانية، قال إبراهيم كالين، الناطق باسم الرئاسة التركية، إن ألكسندر لافرينتييف، مبعوث الرئيس الروسي الخاص بشؤون التسوية في سورية، أخبره قبل عقد الجولة السابعة من محادثات آستانة «أن مؤتمر شعوب سورية، المقرر عقده في روسيا، سوف يساهم في عملية الانتقال السياسي بسورية»، وهو موقف أكده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عبر إعلانه أن هدف المؤتمر تنفيذ القرار المذكور، ناهيك عن تأكيد موسكو أن المؤتمر ليس بديلاً لمسار جنيف.
ربطت تقديرات سياسية وإعلامية بين الاستعجال الروسي (تجلى في أن الأطراف الـ33 الواردة في لائحة الخارجية الروسية لم تبلغ سلفاً ولم تتلق أي دعوات، وأن موسكو قررت عقد المؤتمر ووضعت لائحة المشاركين وأعلنتها رسمياً، ثم بدأت بعد ذلك اتصالاتها بهذه الأطراف) وبين حاجتها إلى استثمار إنجازها العسكري في حل سياسي يضمن مصالحها عبر الاستفراد بالحل بالتخلص نهائياً من الشراكة الدولية ودور الأمم المتحدة، مع أن المشهد العسكري والسياسي يشير إلى استحالة بلع وهضم الكعكة السورية من قبل طرف واحد، وأنها بحاجة إلى دعم أميركي وأوروبي، خصوصاً من أجل إعادة الإعمار، ما يستدعي عدم تجاهل مواقف هذه الدول ومصالحها بالقفز على أدوار ومؤتمرات وقرارات أممية وقمم سابقة. وبين من ربط الاستعجال بحاجة روسيا إلى خروج آمن قبل الانتخابات الرئاسية في ربيع العام المقبل في ضوء بروز ميل شعبي روسي لإنهاء الحرب في سورية، وفقاً لاستطلاعات مركز «ليفادا» الروسي، فإن 49 في المئة من الروس يرغبون في إنهاء الحرب.
لكن حسابات البيدر لم تتطابق مع حسابات الحقل، فقد تحفظت إيران والنظام السوري على جدول أعمال المؤتمر (دستور جديد، وانتخابات برلمانية ورئاسية، ورقابة أممية)، ينطوي في رأيهما على انتقال سياسي تعكسه الإشارة إلى القرار الدولي 2254 والدستور الجديد، ورفضت تركيا الحضور احتجاجاً على دعوة حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) للمشاركة في المؤتمر، ورفضت الهيئة العليا والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وفصائل معارضة المشاركة في المؤتمر، ورفضت الولايات المتحدة ودول أوروبية، المملكة المتحدة وفرنسا، والاتحاد الأوروبي، عقد المؤتمر وأعلنت عن تمسكها بمسار جنيف، وضغطت على المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ودفعته للدعوة إلى عقد جلسة في جنيف، حددت يوم 28 الجاري، هذا بالإضافة إلى إعلان الأمم المتحدة أنها لم تحسم بعد موقفها من المشاركة في المؤتمر، راهنت موسكو على حضور الأمم المتحدة وترؤس المبعوث الدولي للمؤتمر كي تجهز على مسار جنيف، وهذا زاد في حراجة موقف روسيا وأربك حركتها «الواثقة» و «المتماسكة»، ودفعها إلى تأجيل موعد المؤتمر إلى أجل غير محدد، وسحب لائحة المدعوين الـ33 من على موقع وزارة الخارجية الروسية الإلكتروني، قالت وكالة «نوفوستي» الروسية إن عدد المدعوين أصبح 161 منظمة، كاشفة عن عدم قدرتها على فرض حل سياسي يحظى بإجماع محلي وإقليمي ودولي، وعن محدودية خياراتها، وعن عدم صحة تقديرها بقرب التسوية السياسية في سورية. |