ما ينفِّذه الأمير محمد بن سلمان من "ثورة من فوق" في المملكة العربية السعودية هو، حسب توالي الصدمات التي تُعْلَن رسميا في السعوديّة، تطبيقٌ لنصيحة الرئيس باراك أوباما الشهيرة قبل غيره حتى لو أن توقيت هذه " الثورة داخل القصر" يتم في عهد الرئيس دونالد ترامب وبتأييد بل بتغطية شخصية واضحة منه.
ما هي هذه النصيحة:
في مقابلته الأشهر مع توماس فريدمان المكتوبة والمسجّلة بالصوت والصورة في "النيويورك تايمز" بعد توقيع الاتفاق النووي الأميركي الإيراني والتي اعتُبرت ولا تزال أشمل دفاع عن الاتفاق النووي، قال أوباما يومها ردا على سؤال عن مخاوف الحلفاء الخليجيين لأميركا من الاتفاق بما خلاصته تقريباً:
الولايات المتحدة الأميركية تستطيع وتتعهد حماية حدود المملكة من أي اعتداء خارجي ولكننا لا نستطيع أن نحمي المملكة من مشاكلها الداخلية. الحماية الوحيدة الناجعة هي قيام المملكة بالإصلاحات الضرورية المختلفة لتطوير الدولة. يتحدّث أوباما في المقابلة حرفيا عن "شباب سني محبط" وعن "الخطر الأكبر الذي يأتي من الداخل لا من إيران" وعن كيف "نتمكّن من تقوية الجسم السياسي لهذه الدول" الخليجية (5 نيسان 2015)
هذا يعني أمرين بوضوح:
1- أن ما يحدث في السعودية حاليا من تغييرات في ما يتعلّق ببعده الأميركي يتخطى رئيسا محددا بل يرتبط بسياسة أميركية أساسية.
2- هناك من سمع النداء في الرياض. أو هناك من كان ينتظر هذا النداء لأنه بات يعرف بأوباما ومن دون أوباما خطورة التحديات الداخلية والخارجية ويعتبر أنه لا بد من تغيير كبير في المملكة وإلا فهي مهدّدة وجوديا. وهنا شاء مزيج من التراكمات وربما المصادفات أن يعثر الدور على "اللاعب" الذي يبحث عنه.
محمد بن سلمان هو هذا اللاعب الذي تعبّر مغامرتُه ولو المدعومة بدقة ومشاركة من واشنطن عن حاجة سعودية عميقة في العائلة والدولة والمجتمع لاسيما في وجود "أيديولوجية تدميرية وعدمية" كما قال أوباما حرفيا. يكفي أن نقرأ الارقام المتداولة في وسائل الإعلام السعودية الرسمية وغير الرسمية عن "الفساد" لنتذكّر الحجم غير العادي للكتلة النقدية والأنشطة الاقتصادية التي تدور حولها العملية الجارية وتطال مؤسسات مهمة خارج السعودية ايضاً. مع العلم ولمزيد من المصارحة فقد كان نمط تركيب هذه الثروات يبدو وكأنه جزء طبيعي من تركيب النظام السعودي. ومرةً قال الأمير بندر بن سلطان، قبل ليس أقل من عشر سنوات، عندما سأله صحافي أميركي في ذروة النقاش المفتوح أميركيا بعد 11 أيلول عن تقديره لحجم دورة الفساد، قال الأمير أنها خمسون مليار دولار واعتبر ذلك رقما "غير كبير" قياسا بالثروة السعودية!
اليوم تعيد حركة محمد بن سلمان طرح كل هذا "السيستم" على بساط البحث ولهذا يأخذ الوضع طابع عملية إعادة تأسيس بل إعادة توزيع للثروة في الدولة وسنرى حدود ما سيستفيد منها المجتمع ولاسيما قواه الشبابية الطامحة وتحديدا تلك الموجودة خارج سوق العمل والتي تهدف "الثورة من فوق" إلى مخاطبتها وربما تمكنت من ذلك مما يمنح حركة بن سلمان بعدا شعبيا لا نعرف مداه حالياً.
لكن ورغم مؤشِّرات القوة الداخلية الأمنية والسياسية وعلى الأرجح الشعبية فإن اللاعب لا يزال يحتاج وقتا أطول ليتبيّن هل سيرتقي من دور اللاعب البارز لدور لا غنى عنه إلى دور البطل أو المنقذ للنظام الملكي برمته؟
صار واضحا أن هناك عملية إعادة تأسيس تتجلّى في إعادة مركزة للسلطة أمنيا وعسكريا واقتصاديا وماليا ومذهبيا لاسابق لها منذ وفاة المؤسس ، كما سبق القول. إنها إعادة تنظيم السلطات الأمنية والمالية والدينية. ولهذا من الصعب التأكُّد من انطباع منتشر في بعض الأوساط الدولية أن الأمير محمد بن سلمان مستعجل على جبهات عدة..
ليس أكيدا أنه مستعجل. لأنه ربما تكون تعددية فتح الجبهات الداخلية والخارجية حاجةً لتكريس كل جوانب الشرعية الدينية والسياسية ولاجتماعية والإصلاحية وتعميقها بيد السلطة الجديدة.
لذلك تكشف "الراديكالية" التي تمت بها الاعتقالات في "الثورة داخل القصر" وتصاعد التوتر مع إيران في الآن معا أن العمليتين مترابطتان ولا تَنْتُجان عن فوضى ما بل الأرجح عن تخطيط دقيق وغرفة عمليات متعددة الإمكانات والخبرات والمساهمات؟
إنها ليست مجازفة العمر للملك سلمان وولي عهده فقط بل ربما للنظام السعودي التي يتوقف عليها مستقبل المملكة لعقود.
لقد طُرح مستقبل المملكة أخيرا ولكن هذه المرة من قاعة العرش نفسه. ولذلك علينا توقُّع المزيد من الصدمات. |