اجتماعات آستانة الأخيرة تمّت على عجل، وكان واضحاً في شكل كبير من الاجتماعين السابقين اللذين عقدا في آستانة أن كلاً من النظام والمعارضة يلعب دور الديكور تقريباً، فالنتائج تبدو معدة مسبقاً والبيان الختامي غالباً ما يتم الاتفاق عليه مسبقاً من جانب ما يسمى الدول الضامنة وهي روسيا في شكل أساسي وتركيا وإيران، ولذلك وفوراً وعقب انتهاء الاجتماع تم الإعلان عن إضافة منطقة رابعة لمناطق خفض التصعيد وهي إدلب، ولم تستطع المعارضة المسلحة أن تتمنع أو تشترط كما حصل في المرات الماضية؛ فالموقف التركي كان حاسماً جداً بدلالة تصريحات الرئيس أردوغان ولم يسمح للمعارضة المسلحة التي يضمنها بأن تمتنع عن الحضور أو تقديم لائحة من الاشتراطات كما اعتادت وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفك الحصار عن بعض المناطق مثل غوطة دمشق، فقد اصطدمت المعارضة المسلحة بموقف تركي حاسم يقوم على أساس إنجاح هذه الجولة من مفاوضات آستانة في أي شكل لأن من شأنها أن تعطي تركيا تفويضاً لإخراج «جبهة النصرة» أو كما هو مسماها الجديد «هيئة تحرير الشام» من إدلب، وهو ما تم بالفعل.
فبمجرد انتهاء اجتماعات آستانة تحركت الوحدات العسكرية التركية إلى الحدود السورية- التركية في عملية تهدف إلى إخراج «جبهة النصرة» من إدلب وسدّ الذريعة أمام الولايات المتحدة وحليفتها في سورية «وحدات الحماية الكردية» للتوجه نحو إدلب والسيطرة عليها، وفي الوقت ذاته الحد من طموحات القوات السورية النظامية في التوجه إلى إدلب بعد دير الزور بمساعدة القوات الروسية لإخراج «المنظمات المتطرفة» من إدلب وبالتالي فرض واقع جديد يقوم على إعادة سيطرة نظام الأسد على المعابر الحدودية مع تركيا وهو السيناريو الذي لا يمكن تركيا أن تتخيله اليوم.
لقد وجدت تركيا نفسها في موقف صعب للغاية، فترددها على مدى السنوات السبع الماضية قلب المعادلات والحقائق على الأرض لغير مصلحتها تماماً، فقوات «وحدات الحماية الكردية» التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية أصبحت شريكاً رئيسياً وحصرياً للولايات المتحدة في حربها ضد «داعش»، ورفضت أميركا كل الدعوات التركية لوقف تسليح هذه المنظمة كما رفضت الولايات المتحدة دعوات أكثر سخاء بكثير بتدخل الجيش التركي من أجل محاربة «داعش» في سورية، فقد أصرت الولايات المتحدة سواء تحت إدارة الرئيس السابق أوباما أو الرئيس الحالي ترامب – الذي تفاءلت تركيا به خيراً – على الاعتماد على القوات الكردية بدل اللجوء إلى حليفها في «الناتو» مما خلق توتراً كبيراً في العلاقات التركية- الأميركية على مدى السنوات الخمس الماضية.
ولذلك أدركت تركيا أن أي تردد هذه المرة سوف يقلب الأمور رأساً على عقب في حدودها الجنوبية مع سورية، ولذلك قررت وحشدت قواتها بسرعة من أجل البدء بعملية عسكرية حدودية وداخل الأراضي السورية كما فعلت سابقاً في مدينة الباب تتيح المجال للمعارضة السورية المسلحة المتمثلة في «الجيش السوري الحر» المتحالف معها الدخول إلى مدينة إدلب والسيطرة عليها وسد كل الحجج والذرائع التي يمكن أن تستغلها الولايات المتحدة أو روسيا لاستبدال «جبهة النصرة» بـ «وحدات الحماية الكردية» أو قوات النظام السوري.
لكن تركيا تدرك في الوقت ذاته أن معركتها ضد «جبهة النصرة» سابقاً (هيئة تحرير الشام حالياً) لن تكون سهلة وربما تتطلب الكثير من الموارد العسكرية واللوجيستية لا سيما أنها من غير المتوقع أن تحصل على تغطية جوية سواء من أميركا أو روسيا إلا في حال غيرت الولايات المتحدة موقفها وقررت دعم العملية العسكرية التركية.
المفهوم الأميركي لسورية يبدو مختلفاً تماماً عن المفهوم الروسي لـ «سورية المفيدة»، التي أشار اليها الرئيس الروسي بوتين في تحيته للقوات السورية في تقدمها إلى دير الزور، فالمفهوم الأميركي تحت إدارة ترامب يعتمد في شكل رئيسي على مبدأ عدم الاكتراث، وأن تحقيق النصر ضد «داعش» كافٍ بالنسبة الى الإدارة الأميركية التي تنهكها الخلافات الداخلية وتعصف بها الفضائح المحلية مثل تحقيقات «اف بي آي» (FBI) في علاقة حملة ترامب الرئاسية بروسيا والاستقالات المتكررة من جانب المسؤولين داخل الإدارة الأميركية، وبالتالي فلا تجد الإدارة الأميركية الوقت ولا تستشعر الجدوى لتوفير الموارد السياسية أو المالية من أجل الدفع بعملية الانتقال السياسي في سورية قدماً.
أما المفهوم الروسي لسورية فأصبح أكثر نفعية، إذ إنه أصبح يفكر اليوم في حجم العائدات التي يمكن جنيها من تدخله العسكري في سورية، فالرئيس بوتين يدرك أن سورية بلد محدود الموارد الطبيعية لكنه ربما غني بالموارد البشرية التي لن تجد في شكل نظام الحكم الحالي أي حافز من أجل الدفع بطاقاتها للاستثمار في بلد تحكمه الديكتاتورية ويقتله الفساد، وعليه، فليس لسورية ما يمكن أن تعتمد عليه سوى فتح الباب للشركات الروسية للاستثمارات في سورية، لكن تبقى العقبة الرئيسية هي انهيار كامل للعملة المحلية وبالتالي لن تتمكن الدولة السورية من القيام بأية مشاريع استثمارية ضخمة على مستوى البنى التحتية والتصنيع وغيرها، وستبقى تنتظر الأموال الغربية من أجل إعادة الإعمار التي اشترطت بدء مرحلة انتقالية من دون الأسد.
لذلك، ربما بدأت روسيا تفكر بمخرج «مشرف» لها من سورية، مع ازدياد الأخبار عن الصعوبات المالية التي يعانيها الاقتصاد الروسي وانحسار شعبية الرئيس بوتين داخل الرأي العام الشعبي ولو أن كل هذه لا تبدو عوامل حاسمة لتغيير قرار الموقف الروسي من الأزمة السورية اليوم.
وعليه، تبدو معركة دير الزور اليوم في غاية الأهمية لمواردها الاقتصادية والنفطية، ولذلك ربما تفضل روسيا اليوم أن تخضع هذه المحافظة لنفوذها بدل سيطرة «وحدات الحماية الكردية» عليها وبالتالي خضوعها للنفوذ الأميركي، فـ «سورية المفيدة» اليوم هي البوصلة التي تحرك النظام السوري وروسيا في معركتهما لطرد «داعش» من هذه المدينة. * كاتب سوري وباحث في المركز العربي في واشنطن |