الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في مئوية وعد بلفور وفي بعض مسؤولياتنا عنه - ماجد كيالي
اعتاد الفلسطينيون في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر)، من كل عام، إحالة مصيبتهم، أو نكبتهم، المستمرة إلى وعد بلفور المشؤوم (1917)، وإلى بريطانيا، الدولة المنتدبة على فلسطين وقتذاك. ومع أن لهم الحق في ذلك، إلا أنه وحده ليس كافياً، إذ لا يفسّر نكبتهم، ولا قيام إسرائيل، كما لا يفسّر تعثّر مسيرتهم في مواجهة المشروع الصهيوني، ولا بخصوص تفوق وتميّز إسرائيل عليهم، وعلى العالم العربي، في مجالات السياسة ونظام الحكم، وإدارة الاقتصاد والموارد، وفي تنمية المجتمع والثقافة والإعلام، كما في العلوم والتكنولوجيا، وليس فقط في المجال العسكري، كما يروّج بعضهم.

عدا ذلك، فإن هذه الإحالة تحجب أيضاً عدداً من الحقائق، أولاها، أن هذا الوعد جاء نتيجة جهود ذاتية حثيثة لحركة سياسية اسمها الصهيونية، التي كانت عقدت أول مؤتمر لها قبل عقدين من الزمن (في بال عام 1897)، وتعهدت باعتبار اليهودية بمثابة رابطة قومية، كما اهتمت بوضع أجندتها في قلب أجندة الظاهرة الاستعمارية، التي كانت ناشطة وصاعدة آنذاك، ما مكنها من إيجاد تقاطعات ومصالح مشتركة في ما بينها وبين الدول الكبرى. وثانيتها، أن الوعد شيء، وتنفيذه شيء آخر، إذ إن وعوداً عدة من التي قطعتها الدول الأوروبية الاستعمارية، آنذاك، ذهبت أدراج الرياح، وضمنها (للتذكير) الوعد البريطاني (من السير هنري مكماهون) للشريف حسين (شريف مكة حينذاك) بإقامة دولة عربية في الشرق الأوسط (1916) تحت حكمه، في حال أعلن ما سمي الثورة العربية الكبرى، التي هدفت إلى إنهاء السيطرة العثمانية على العالم العربي، بمعنى أن الوعود وحدها لا تعني شيئاً، من دون توافر العوامل الذاتية الحاملة لها، وضمن ذلك القيادة القادرة على استثمار المعطيات الدولية والإقليمية لمصلحتها، وهو ما توافر للحركة الصهيونية ولم يتوافر للفلسطينيين. وثالثها، أن تحقّق الوعد، ونشوء الدولة شيء، وقدرتها على الاستمرار، وتالياً التميز والتطور، شيء آخر، والحديث هنا عن مئة سنة بعد وعد بلفور. ومعلوم أن إسرائيل قامت (1948) بعد 50 عاماً من المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، وبعد ثلاثة عقود على وعد بلفور، في حين أن الحركة الوطنية الفلسطينية، التي بات لها أكثر من نصف قرن، لم تستطع سوى إحراز نوع من الحكم الذاتي في 22 في المئة من أرض فلسطين، وتحت الهيمنة السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية الإسرائيلية. وربما يجدر أن نتذكر أن هذه الدولة المصطنعة استطاعت احتلال أضعاف مساحتها في حرب حزيران (يونيو) 1967، أي بعد عقدين فقط على قيامها، وأنها قبل ذلك استطاعت استيعاب ضعف عدد سكانها اليهود في السنوات الثلاث الأولى لقيامها، من المهاجرين اليهود القادمين، بحيث ارتفع عدد اليهود فيها من حوالى 650 ألفاً إلى حوالى مليون و200 ألف (1951)، ناهيك بالتطور الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي الذي باتت تحظى به ويميزها عن دول المنطقة.

القصد أنه من السهل، وربما من المريح، دائماً، إحالة أي شيء إلى الخارج، وإلى دعم الغرب إسرائيل، وهذا صحيح، لكن ذلك لا يستخدم للشرح والتحليل، في أغلب الأحوال، وإنما يقدم لتبرير القصور وتغطية العجز والتهرب من المسؤولية.

في الغضون، يمكن لفت الانتباه إلى أنه من الفترة بين 1817 (الوعد) إلى الفترة 1948 (قيام إسرائيل)، كانت حصلت تطورات عدة تبيّن أن المشكلة لا تتعلق فقط بالوعد، وبدعم الدولة الاستعمارية المنتدبة على فلسطين للمشروع الصهيوني، وإنما هي تتعلق، أساساً، بضعف، أو تخلف المجتمعات العربية، ومن ضمنه التخلف السياسي، وافتقاد الفلسطينيين قيادة تتمتع برؤية سياسية، تدرك الواقع وحقائق العصر ومعطيات موازين القوى. وطبعاً، لا ينبغي أن يفهم من ذلك أنه لو كانت ثمة قيادة من هذا النوع للفلسطينيين أن إسرائيل ما كانت ستقوم حتماً، وإنما المعنى هنا أن وجود هكذا قيادة كان يمكن أن يقلل كثيراً الأثمان والعذابات التي أحاقت بالفلسطينيين، بل وربما كان خلق واقعاً يسمح، في مرحلة تالية، بمقاومة المشروع الصهيوني، أو إيجاد نوع من التوازن بين تعبيرات المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي. والفكرة هنا أن ما من شيء كان حتمياً في هذا الصراع الدائر على فلسطين. ومثلاً، كان يمكن الفلسطينيين، في حال انتهجوا طرقاً كفاحية مناسبة، وتصورات غير صفرية للصراع، أن يبقوا في أراضيهم، مثلما بقي حوالى 88 ألفاً، بات عددهم اليوم يزيد عن مليون ونصف، وأضحوا هم أهم ثغرة في المشروع الصهيوني، لا المقاومة المسلحة، مع كل الاحترام للتضحيات والبطولات، ولا كل الشعارات عن التحرير.

هكذا، فإبان الانتداب البريطاني على فلسطين كان واضحاً أن المقاومة المسلحة لشعب أعزل لن تجدي شيئاً، ومع ذلك فقد كنا إزاء مقاومة لم تخضع للتنظيم ولا لأي حسابات سياسية مدروسة. وبالنتيجة، فإن تفحّص نتائج ثورة 1936 - 1939، التي تحولت من ثورة مدنية سلمية (لمن يتذكر الإضراب الكبير) إلى ثورة مسلحة، يبيّن أن الفلسطينيين استنزفوا قواهم في اللحظة غير المناسبة، وأنهم زجّوا كل قواهم ضد العدو الأقوى، أي بريطانيا. وفي المقابل، فقد استفادت فصائل الحركة الصهيونية من هذا وذاك، لذا فعندما أزفت اللحظة المناسبة (1948)، لم يكن الفلسطينيون قد تعافوا من الضربات التي وجهتها لهم حكومة الانتداب، التي كانت اعتقلت وقتلت عشرات الألوف منهم، وجردتهم من أسلحتهم، وشردت قياداتهم، وعلى رأسها الحاج أمين الحسيني (ما يذكر بما حصل في الانتفاضة الثانية (2000 - 2004). وهكذا ففي لحظة قيام إسرائيل (1948)، لم تكن للفلسطينيين قيادة، كما لم يكن لديهم ما يواجهوا به العصابات الصهيونية التي جمعت 60 ألفاً من المسلحين، في حين أن الأنظمة العربية اكتفت بأسطورة الدفاع عن فلسطين، إذ لم تجمع ثلث هذا العدد لدعم شعب فلسطين، بل إنها سهلت له التشرد، بانتظار «وعد» بعودة قريبة.

الفكرة هنا أن توافر قيادة حكيمة كان من شأنه تقليل الأثمان والأخطار، وتلافي جوانب مهمة من الكارثة، إذ كان يمكن أن يبقى في فلسطين المغتصبة نصف مليون بدلاً من 88 ألفاً، وكان يمكن من اضطر للجوء أن يذهب إلى الضفة مثلاً، بدلاً من الأردن أو لبنان أو سورية، وكان يمكن المجتمع الفلسطيني، في الضفة وغزة، أن يكون أحسن حالاً، وأكثر تمكيناً، في مواجهته عواقب إقامة إسرائيل، هذا من دون أن نتحدث عن بؤس الواقع العربي.

لم تقتصر المسألة على مجرد التعويل غير الموفق، وغير المدروس، على السلاح، في مواجهة الانتداب البريطاني، وهي ظاهرة لم نشهد مثلها لا في مصر ولا في العراق، ولا في سورية ولا لبنان ولا في تونس، وهي دول كانت خاضعة للانتداب البريطاني أو الفرنسي، بمعزل عن بعض الأساطير التي تمّت المبالغة بها فيما بعد، في خصوص كتابة الأنظمة لتاريخ متخيل، أكثر منه واقعي، وإنما المسألة تتعلق، أيضاً، بإدارة الصراع السياسي.

والقصد أن فشل هذه القيادة بطريقها العسكري تماثل مع فشلها في إدارة صراعها السياسي ضد المشروع الصهيوني، ما أمكن وعد بلفور أن يتحقق، على النحو الذي شاهدناه. هكذا رفض الفلسطينيون كل خطط التقسيم، التي طرحت من خطة بيل (1937)، كما رفضوا «الكتاب الأبيض» (1939)، ثم قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، الذي أصدرته الحكومة البريطانية في شأن فلسطين (1939). وبينما رتبت الوكالة اليهودية أمورها مع سلطة الانتداب البريطاني، فإن الحركة الفلسطينية سهلت ذلك بمعاداتها سلطة الانتداب، وبرفضها أية مقترحات تتعلق بإدارة مشتركة، أو فيديرالية، في فلسطين. ولا حاجة لنا اليوم لتأكيد أن القصة لا تتعلق بالحق والعدالة، لأننا إزاء صراع سياسي، وشعب تحت الاحتلال، والمنطقة كلها كانت وقتذاك تحت الاحتلال، البريطاني أو الفرنسي، وفي ذلك الوقت كان من المشروع سياسياً الدخول في مفاوضات مع الدولة المستعمرة (المنتدبة) في مفاوضات حول شكل الحكم، والمشاركة في إدارة شؤون البلد، وهذا ما حصل في مصر وتونس وسورية، إذ إن غالبية البلدان العربية استقلت ليس كنتاج حركة تحرر وطني، وإنما كنتاج للتحولات الدولية التي حصلت، وأهمها أفول الدول الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود الولايات المتحدة كزعيمة للعالم الرأسمالي.

وقد يجدر التذكير، أيضاً، أن الفلسطينيين لم يشتغلوا البتة على إثارة واستثمار التناقضات في مجتمع المستوطنين اليهود، علماً أن المشروع الصهيوني كنت تتنازعه وقتذاك اتجاهات عدة، ضمنها الصهيونية العملية والسياسية والصهيونية الروحية أو الثقافية، التي كانت ترى أن الحل لا يكمن في إنشاء دولة يهودية، وأن قيام هذه الدولة سيعود بالضرر الأخلاقي على الصهيونية، وبالضرر على اليهود في فلسطين في محيط معاد، وتأتي هنا طروحات أحاد هاعام ومارتن بوبر ويهودا ماغنس، في العشرينات والثلاثينات، بخصوص إقامة دولة ثنائية القومية في فلسطين. كما كان ثمة تناقض بين التيارات العلمانية والتيارات الدينية، ولم تكن قد برزت قضية اليهود الشرقيين، لأن هؤلاء لم يكن المشروع الصهيوني قد جذبهم بعد، بمعنى أن هجرتهم إلى فلسطين/ إسرائيل، حصلت بعد نكبة الفلسطينيين، وهنا، أيضاً، ساهم النظام العربي بنصيبه في وعد بلفور، في المرة الأولى، بإضعاف الفلسطينيين وعدم إسنادهم، وفي المرة الثانية، برفد إسرائيل بمئات آلاف اليهود، الذين دفعوا لمغادرة البلدان العربية بسبب السياسات التي انتهجت ضدهم في أوطانهم.
إعادة قراءة التاريخ مطلوبة، بطريقة نقدية، بدلاً من إحالة كل شيء إلى مجرد وعد.
 
 
* كاتب فلسطيني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
وقف نار غير مشروط في غزة بوساطة مصرية
تل أبيب ترفض التهدئة وتستدعي قوات الاحتياط
مصير الانتخابات الفلسطينية يحسم اليوم
استطلاع: «فتح» تتفوق على «حماس» والبرغوثي يفوز بالرئاسة
المقدسيون مدعوون للانتخابات عبر مراكز البريد
مقالات ذات صلة
أيضاً وأيضاً: هل يتوقّف هذا الكذب على الفلسطينيّين؟ - حازم صاغية
حرب غزة وأسئلة النصر والهزيمة! - أكرم البني
لا قيامة قريبة لـ«معسكر السلام» - حسام عيتاني
إعادة اختراع الإسرائيليّة والفلسطينيّة؟! - حازم صاغية
... عن مواجهات القدس وآفاقها المتعارضة - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة