تتجه الأزمة السورية ببطء وصعوبة نحو طريق قد تُفضي في النهاية إلى تسوية سياسية. روسيا، التي تمسك بأهم أوراق الأزمة الآن، تحاول شق هذه الطريق منذ مطلع العام الجاري، خشية أن تتورط أكثر، وطمعاً في جني ثمار انخراطها السياسي العميق، وتدخلها العسكري الكثيف، ونجاحها في قلب موازين الأزمة، بعدما أنقذت نظام بشار الأسد الذي كان مُهدَّداً بالانهيار.
تمكنت روسيا من تحريك الأزمة، وتجاوز مسار جنيف المغلق والمتعذر فتحه، عبر خلق مسار آستانة. وحققت، بنظرة واقعية محضة، شيئاً من التقدم في إنشاء مناطق خفض التصعيد. استثمرت شبكة علاقات واسعة نسجتها، انطلاقاً من قاعدة حميميم، في مناطق كانت محاصرة بسبب انتفاضها ضد النظام، وأسست لجان مصالحة وهيئات محلية، وأقامت جسوراً مع فصائل محسوبة على الثورة. ويبدو أن الوقت حان، وفق الاستراتيجية الروسية، لخطوة جديدة تُبنى على تراكمات التحرك السياسي الذي انطلق من حميميم، ونتائج مسار آستانة. ولذا بات ضرورياً قراءة منهج موسكو في تسوية الأزمة في ضوء الواقع الراهن الذي ابتعد كثيراً عن أهداف الانتفاضة السورية التي أجهضت، ولكنها لم تذهب كلها سدى.
وأول ما تسهل ملاحظته وجود فرق كبير بين استراتيجية روسية تقوم على رؤية واضحة في إدارة الأزمة، وسياسة أميركية مرتبكة ومتخبطة، ومخادعة أيضاً. تذكر الأميركيون قبل أيام مسار جنيف، وتحمسوا لدعوة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا لعقد مؤتمر ثامن في نهاية الشهر الجاري، بعدما بدأ الروس الإعداد للمؤتمر الذي كان بوتين تحدث عنه في منتدى فالداي في سوتشي 19 في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأسماه يومها مؤتمر شعوب سورية، ثم غُير اسمه إلى مؤتمر الحوار الوطني للشعب السوري.
بدأت الاستراتيجية الروسية الراهنة في إدارة الأزمة تتبلور منذ الحسم العسكري في حلب نهاية العام الماضي، وفق منهج قد يجوز اختزاله بأنه يرمي إلى بناء تسوية متدرجة من أسفل إلى أعلى، اعتماداً على تسويات محلية متنوعة، وليس على صفقة سياسية شاملة أظهرت تجربة مسار جنيف مدى صعوبتها. استغلت موسكو موازين القوى الجديدة المترتبة على تدخلها العسكري في فرض أمر واقع جعلها مقبولة على نطاق واسع، حتى في أوساط المعارضة. ومضت في مسار آستانة بمشاركة إيران وتركيا رسمياً. وصارت الولايات المتحدة شريكاً فعلياً بصورة ضمنية في هذا المسار، عندما قبلت خطة مؤتمر آستانة 4 الذي عُقد أول أيار (مايو) الماضي، لخفض التصعيد في أربع مناطق، وشاركت في صوغ الاتفاق الأول في جنوب غربي سورية، وفي إعلانه خلال لقاء الرئيسين الأميركي والروسي على هامش قمة هامبورغ في 7 تموز (يوليو) الماضي.
تضع اتفاقات خفض التصعيد خطوطاً أولى في خريطة التسوية وفق المنهج الروسي، وربما ترسم حدوداً أولية لمناطق قد تصبح أقاليم في نظام اتحادي «فيديرالي»، إلى جانب المناطق الشمالية التي أقام حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي إدارة ذاتية فيها، وأخرى توجد فيها بعض فصائل الجيش السوري الحر، وتمارس تركيا نفوذاً قوياً فيها. كما توجد إدارات محلية في مناطق تخضع لسيطرة النظام، لكن النفوذ الأقوى فيها لروسيا أو إيران.
وربما فتح المؤتمر الجديد، الذي سيعُقد في سوتشي بعد أيام، باباً جديداً في هذا الاتجاه الذي يقود المضي فيه إلى بقاء سورية كياناً واحداً، وإقامة نظام جديد يمتزج فيه تقاسم النفوذ بين قوى دولية وإقليمية بصيغة اتحادية تكون السلطة المركزية فيها مقيدة، سواء في الفترة التي قد يبقى الأسد على رأسها، أو بعدها.
والأرجح أن يصبح النفوذ الفعلي للسلطة المركزية أقل مما كان في إمكان نظام الأسد أن يحتفظ به لو استجاب إلى نداءات التغيير في بداية الثورة، وتفاوض مع المحتجين لإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية من أعلى، وحافظ بالتالي على بلد صار حطاماً.
ولذا يبدو حديث النظام عن انتصاره خادعاً للنفس، وليس للغير فقط، خصوصاً بعدما ابتعد احتمال التقسيم الجغرافي الذي كان سبيلاً وحيداً لإعادة إنتاج جبروته في دويلة يُحكم سيطرته عليها. والحال أن أركان نظام الأسد لا يستطيعون أن يضعوا خطاً مهماً في خريطة التسوية التي تسعى روسيا إلى رسمها الآن على نحو يختلط فيه تقاسم النفوذ وترتيبات يمكن أن تُفضي إلى صيغة اتحادية هشة في مركزها، كما في كثير من وحداتها، لأنها لا تقوم على عقد اجتماعي يحظى برضا أطرافه، بل ستنتج عن أمر واقع مرشح لأن يستمر لفترة من الزمن.
غير أن هذه الصيغة يمكن أن تصبح أقوى في حال توصل روسيا إلى تفاهمات في شأنها مع الولايات المتحدة، ووضع مظلة سياسية لها وفق ما نصح به «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» في ورقة طرحها في أيلول (سبتمبر) الماضي، وتضمنت تصوراً لحل يقوم على تقليص صلاحيات السلطة المركزية، وتعزيز دور المجالس المحلية والإدارات الذاتية.
وفي هذه الحال، ربما يمكن تحقيق تقدم تدريجي باتجاه صيغة اتحادية أكثر تماسكاً وقابلية للاستمرار إذا نضجت المعارضة السورية، وفهمت معنى «الفيديرالية» والوظيفة التاريخية التي يمكن أن تؤديها في بلد مزق الطغيان المركزي نسيجه الاجتماعي وأرضه في آن معاً، على رغم الصعوبات الناتجة عن تقاسم النفوذ بين دول مختلفة مصالحها، وتداعيات تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وإيران.
لكن التقدم في هذا الاتجاه يبقى صعباً من دون التفاهم بين الدول التي تتقاسم النفوذ في سورية على أمرين. الأول إخراج المقاتلين الأجانب، وإعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، ودمج مقاتلي فصائل الجيش السوري الحر، وغيرها من المجموعات المعتدلة، فيها لتعمل وفق عقيدة جديدة تجعلها حامية للوطن وأمن الشعب، وليست حارسة للنظام.
والثاني عملية إعادة إعمار لا تقتصر على بناء منازل وطرق وجسور مهدَّمة، ولا تكافىء الموالين للنظام وحلفائه على حساب معارضيه الذين هُجر ملايين منهم أو نزحوا من مناطقهم، بل تشمل ترميم النسيج الاجتماعي الممزق من جراء طغيان أخذ في الازدياد منذ نهاية الخمسينات، وبناء الثقة المفقودة بين فئات المجتمع ليكتسب مناعة في مواجهة تعصب وتطرف يخلقان بيئات حاضنة للعنف والإرهاب. |