التعددية الحقوقية في التراث الدستوري العربي. حسنا أقدمت دار المشرق، في إصدار كتاب حسن الزين باللغة الفرنسية بعنوان: "الأوضاع القانونيّة لليهود والمسيحيين في بلاد الإسلام حتى الفتح العثماني"، مع تقديم لجهاد الزين.
نقرأ الكتاب في زمن حيث صدر إعلان الأزهر حول "المواطنية والعيش معًا" في 1/3/2017، وإعلان بيروت للحريات الدينية الصادر عن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في 20/6/2015، وإعلان بيروت وهيئة المتابعة لإعلان الأزهر على أثر مؤتمر جامعة سيدة اللويزة برعاية غبطة البطريرك بشارة الراعي ومشاركة الأزهر في 1/7/2017، والاحتفال المرتقب في 10/11/2017 بمناسبة أربعين سنة على انشاء معهد الدراسات الإسلامية - المسيحية في جامعة القديس يوسف، وغيرها من الوثائق الحديثة المجدّدة والأصيلة.
ويقول جهاد الزين في تقديمه لكتاب والده الذي رحل منذ عام أن حسن الزين أدمج علاقة الإسلام بأهل الكتاب بطريقة مُتجددة. وأنه تأثّر باستاذه فؤاد افرام البستاني وكلماته القاسية تجاه التراث الثقافي العربي وهو الأستاذ المميّز والخصم الفكري، و أنه يعتقد ان الاسلام يعلو على المسلمين وانحرف عن جوهره. المقاربة قانونية وليست مجرد تاريخية. قادته شجاعته الفكرية الى طرح إشكالية جوهرية وهي علاقة الإسلام بالعصرنة. من يُعالج هذه الإشكالية: الحقوقيون أم المؤرخون؟ توفي حسن الزين واثقًا بأولوية حتميات العصرنة. لكن لا يمكن التأكيد انه كان واثقًا من مستقبلها.
يتميز الكتاب عن مسارين، الأول لأنطوان فتال الذي يصف الانحطاط في تطبيق منظومة أهل الذمة، والثاني للشيخ عبد الكريم زيدان الذي يقرأ النص بعيدًا عن التطبيق. الكتاب هو تاليًا مدخل لمسار ثالث، أو مقاربة أخرى بعد اليوم، في مسألتين: أولاً المنظومة الحقوقية حول الحريات الدينية في الإسلام، وثانيًا اشكالية تطوير التعددية الحقوقية استنادًا الى مقاصد الشريعة والمبادئ العالمية لحقوق الانسان.
1- المنظومة الحقوقية للحريات الدينية في الإسلام نستمر اليوم في استعمال تعبير "أهل الذمة" بدون ربطها بالنظرية الحقوقية حول التعددية الحقوقية في المجتمع pluralisme juridique. كان الإسلام رياديًا في زمانه في إدارة التنوّع الديني والثقافي. أما التاريخ الغربي فهو متأثر بايديولوجية وحدة المنظومة الحقوقية في المجتمع unité de l’ordre juridique، بمعنى أنه يقتضي تطبيق قانون واحد على الجميع بمعزل عن الانتماءات الدينية والثقافية واللغوية والعرقية وغيرها.
أما فلسفة التشريع في الاسلام فهي "شخصية"، كما يكتب اميل تيان، أي ان الإسلام لا يُطبق تشريعه على غير المسلمين. يمكن ايجاز التراث الغربي بما حصل في مجزرة Saint Barthélémy في فرنسا (23-24/8/1572) حيث اطلق شعار: "ايمان واحد، قانون واحد، ملك واحد"
تعني أساسًا عبارة "ذمة" لا تمييزًا سلبيًا، بل "عهد وعقد وثقة وحماية" (ص 17)، ما يُجسده ميثاق المدينة في عهد الرسول. تركزت بحوث طيلة قرون حول "الذمية" في الإسلام من منطلقات إيديولوجية أو مُتعصّبة أو في سبيل التشهير، مع تجنّب دراسة الواقع التاريخي للحريات الدينية وتطوراته في العهود الرومانية: ejus regio, ejus religio (لكل منطقة دينها) واليونانية والغربية عامة وقبل بروز عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر والاعلان العالمي لحقوق الانسان والشرعات الدولية.
الأكثر خطورة هو الاغتراب الثقافي alinénation لدى جامعيين ومُثقفين متأثرين بفكر قومي آحادي لا ينسجم مع نموذج البناء القومي بالمواثيق كما في لبنان ولا مع التراث الدستوري العربي والإسلامي منذ نشأة الإسلام وطيلة قرون. استفاقت يوغوسلافيا السابقة على واقعها التعددي وكذلك الاتحاد السوفياتي السابق. هل تستفيق اليوم المجتمعات العربية على جذور وحدتها في التنوّع؟
هذا ما يسعى اليه حسن الزين في كتابه من خلال مقاربة تاريخية لموضوع أهل الذمة وتحولاته عبر التاريخ العربي لاعتبارات اقتصادية وسياسية عملانية، كما حصل عالميًا في كل مراحل التاريخ في ما يتعلق بضمان الحريات الدينية والثقافية.
يرد في الاستقصاء المعمّق للمؤلف وثائق عديدة حول التطورات في تطبيق المساواة بين المواطنين في التاريخ العربي وشهادات رحالة أجانب (ص 64-68) وحالات الغاء الجزية (ص 188-191). تُشكل هذه الوثائق مادة بالغة الأهمية في سبيل منهجية أخرى مستقبلاً في التأريخ العربي والعمل التربوي في المدارس والجامعات.
تجاهلت أكثر البحوث التي تتعلق بالمعاملات في الإسلام جوهر العلاقة المأساوية tragique، بالمعنى الاغريقي، بين الدين والسلطة. حُكم على يسوع بالموت، بالرغم من عدم صراعه في سبيل السلطة وثبات موقفه: "مملكتي ليست من هذا العالم". أصبح يسوع يُشكل خطرًا على أهل السلطة الدينية والسياسية. وتحمّل رسل يسوع الأوائل الاضطهاد والاستشهاد بدون سعيهم الى السلطة. لجأت الكنيسة طيلة قرون التواطؤ مع السلطة pouvoir أو الممارسة المباشرة للسلطة وغرقت واغرقت الناس في المصيبة والمصائب.
أما رسول الإسلام فتعرّض للاضطهاد الى أن أصبح قائدًا دينيًا وسياسيًا وبالتالي مُنظمًا لشؤون إدارة الحكم، والاّ لكان المصير المأساوي! لا أوضَح من الآية: "لا اكراه في الدين" حول حتمية الفصل، ليس بين الدين والسياسة، بل بين الدين والسلطة pouvoir، حيث ان عبارة "اكراه" سياسية لأن الدولة وحدها لها الحق باللجوء الى القوة المنظمة. يواجه الفكر الإسلامي معضلة التمييز بين العبادات والعادات (وعدم "فرض" العادات)، مع التقيّد طبعًا "بمقاصد الشريعة" كما يرد في تعديلات واجتهادات دستورية.
2- معايير ومجالات التطوير
هل يأمل حسن الزين بحظوظ التطوّر؟ التطوّر حتمي، كما يرد في تقديم الكتاب وفي المسار التاريخي الذي يصف المؤلف تفاصيله. لكن المعضلة ليست فقط في ذهنيات جامدة، بل أيضًا في فكر حقوقي مر عليه الزمن ولا يتمتع لا بالتجدد ولا بالأصالة. ما يُساهم في التطوّر ضمن السياق التاريخي ومقاصد كل الأديان، وليس الإسلام فقط، هو الاستناد الى تجربة ونظرية التعددية الحقوقية، بخاصة في المجتمعات العربية وتطبيقًا لجوهر الإسلام.
يقتضي العمل على عصرنة ما سُمي سابقًا أهل الذمة وأنظمة الملل في لبنان والمنطقة العربية عامة في اتجاهين: نحو جعل هذه الأنظمة أكثر مساواة في الحالات حيث تفتقر هذه الأنظمة الى المساواة، وجعلها منفتحة بشكل يحق فيه الانتماء الى نظام مدني اختياري في الأحوال الشخصية.
ليس في الشرق الأوسط تراث في الفيديرالية الجغرافية. تعود أسباب ذلك الى التفاعل الديني في المنطقة الذي يذكره المؤلف مع تفاصيله. المنطقة العربية هي مهد ديانات كبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام. عرف العيش معًا طرقًا عدة في تنظيمه على أسس ثقافية. وكانت المجموعات الدينية على تفاعل الى حد لم تؤثر مختلف النزاعات ولا التدخُّلات في كسر نسيج العلاقات في المجتمع.
ان الإدارة الذاتية الحصرية في بعض الأنظمة في العالم، وما يُسمى أنظمة الملل عربيًا، وحسب المادتين 9 و10 من الدستور اللبناني، يجب ان تتضمن في سبيل انتظامها أربعة شروط على الأقل:
1- أن تكون مُحددة لبعض القضايا.
2- ان تتولى هيئات مركزية ضبط المعايير بشأنها. يُذكر في حالة لبنان دور محكمة التمييز في قضايا الأحوال الشخصية والدور الناظم لوزارة التربية والتعليم العالي.
3- ضرورة توفر مخرج opting out بحيث لا يجوز إرغام شخص على الانتماء الى مجموعة أو طائفة.
4- ثقافة المجال العام العابر للطوائف transcommunautaire للحؤول دون الانغلاق.
■■■
ماذا فعل العرب بعد العهود التي سُميت تحررًا بتراثهم الدستوري طيلة قرون؟ تخلوا بالمطلق عن بعض تنظيمات الماضي بدون السعي الى عصرنة هذه التنظيمات. واعتمدوا سياقات ايديولوجية في التحديث بدون استيعاب موجباته.
انه مأزق بعض الفكر العربي وبعض الفكر التوحيدي العربي. من المعروف في علم النفس ان الضحية تنحو الى تقليد الجلاد! ان الصهيونية هي التي أدخلت على المنطقة العربية والشرق الأوسط عامة مفهومًا انفجاريًا في الترادف بين هوية دينية ومساحة جغرافية خلافًا للمفهوم التاريخي لأهل الذمة، أي الحماية الحقوقية في نظرية مُتجددة وأصيلة للتعددية الحقوقية في المجتمع. يناقض التراث الدستوري العربي هذا المنحى.
كتاب حسن الزين هو مدخل أساسي ومُنتظر في سياق مواقف حديثة حول المواطنية والعيش معًا وتعديلات دستورية عربية.
عضو المجلس الدستوري
رئيس كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف |