أظهرت خسارة الأكراد كركوك في شكل درامي، هشاشة البنيان السياسي في إقليم كردستان العراق، وعمق الخلافات السياسية والحزبية بين القوى المتصارعة على المشهد السياسي وسط اتهامات بالخيانة وأخرى باحتكار السلطة والثروة والقرار، ودعوة البعض رئيس الإقليم مسعود بارزاني إلى الاستقالة، ولعل ما سبق يظهر عمق الإحساس ليس بخسارة كركوك فحسب، بل بخسارة الحلم الكردي بإقامة دولة مستقلة بعد أن اعتقد الأكراد أن تحقيق هذا الحلم بات قريباً جداً وربما قضية أيام.
ثمة اعتقاد في أوساط كردية واسعة بأن بارزاني ذهب إلى الاستفتاء لإضفاء الشرعية على زعامته بعد أن انتهت ولايته الرئاسية، وأن هدفه من وراء ذلك كان ترتيب البيت الكردي من جديد وربما تهيئة الطريق لاستلام نجله مسرور الرئاسة، ولعل هذه القناعة ترسخت أكثر بعد أن اتضح أن الظروف لم تكن مهيأة للاستفتاء، فيما أصر بارزاني على المضي فيه، على رغم حجم الرفض العراقي والإقليمي والدولي وكل المناشدات له بالتراجع عنه، لكن تصوير الأمور على هذا النحو يفتقر إلى الدقة وفهم تعقيدات الواقع الكردي، فالصراع والتنافس بين الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني قديم وعميق، إذ منذ تأسيس الأخير عام 1976 على يد الراحل جلال طالباني، خاض الحزبان سلسلة حروب على السلطة والنفوذ والثروة والمناطق، راح ضحيتها الآلاف من الطرفين إلى درجة أنه في عام 1996 قاد طالباني هجوماً على معقل بارزاني في أربيل بمساعدة ايران ونجح في السيطرة على المدينة، فيما هرب بارزاني مع قواته إلى محافظة نينوى، قبل أن يستنجد بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي أرسل قوات الحرس الجمهوري التي طردت مقاتلي طالباني من أربيل إلى حدود إيران قبل أن تساعد الأخيرة على إعادتهم إلى مناطقهم، ولم يهدأ الصراع بينهما إلا بعد تدخل الولايات المتحدة عندما نجحت وزيرة خارجيتها حينها مادلين أولبرايت في دفع الطرفين إلى عقد اتفاق مصالحة في واشنطن عام 1998.
والصراع بين الحزبين يتجاوز البعد الحزبي والسياسي إلى العوامل المناطقية والجغرافية والاجتماعية والإقليمية، فالتنافس بين السليمانية وأربيل وصل إلى حد الدخول في تحالفات إقليمية قاتلة للكرد، وعند الحديث عن العامل الإقليمي سرعان ما تتجه الأنظار إلى إيران التي تشكل الداعم الأساسي للاتحاد الوطني الكردستاني ولاحقاً حركة التغيير (غوران) في مواجهة بارزاني وحزبه. في المقابل، كانت تركيا حليفة قوية لبارزاني قبل قراره بالتوجه إلى الاستفتاء على الانفصال، وهو ما وضع نهاية لهذا التحالف، لتتأكد من جديد القاعدة الذهبية التي تقول إن الدول التي يتواجد فيها الأكراد (العراق، إيران، تركيا، سورية) سرعان ما تتناسى خلافاتها في اللحظات الحرجة وتتفق على وأد حلم الأكراد أينما كانوا.
ربما كان بارزاني يعتقد أن الوضع داخل الإقليم على ما يرام وان بريق الحلم بدولة مستقلة كاف لدفع خصومه السياسيين إلى المضي خلفه حتى النهاية، لكن تقديراته لم تكن دقيقة لا تجاه الداخل ولا تجاه الخارج، إذ استهان بحجم الخلافات الكردية– الكردية من تعطيل البرلمان إلى الاستمرار في رئاسة منتهية ولايتها وإقصاء حركة التغيير، وصولاً إلى حصر الامتيازات والمناصب بعائلته والقريبين منها وسط روائح الفساد على وقع صفقات النفط ... وهكذا اكتشف الجميع ان الواقع الكردي ليس بخير، وأنه في حاجة إلى إصلاح جذري وسريع بعد التطورات الأخيرة، وأن الأخطار الداخلية الناتجة عن الخلافات ليست أقل خطورة من المخاطر الخارجية. لكن السؤال من أين يبدأ الإصلاح؟ هل من استقالة رئيس الإقليم؟ أم من تشكيل حكومة مؤقتة جامعة؟ أم من تشكيل مرجعية سياسية جديدة عبر البرلمان؟ ربما كل ما سبق من خلال برنامج سياسي تتفق القوى السياسية الكردية عليه، ومن دون ذلك فان المخاطر أكبر في ظل الاتفاق الإيراني– التركي ضد الاكراد والدعم القوي لبغداد في تطلعها إلى إعادة الأمور ربما إلى ما قبل الدولة الاتحادية الفيدرالية باسم تطبيق السلطة الاتحادية. * كاتب سوري |