الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ١٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
رؤية لأدوار المجالس الدستورية في مؤتمر عالمي: ماذا تعني "العدالة الدستورية"؟ - أنطوان مسرّە
جرى البحث، بعمق وشمولية وعلى مستوى عالمي، في التحديات التي تواجه اليوم العدالة الدستورية وأهدافها، وذلك خلال المؤتمر العالمي الرابع للعدالة الدستورية في مدينة Vilnius في ليتوانيا■. كان المؤتمر "تمرينًا ضروريًا وجردة وفرصة نادرة في سبيل تبادل خُبرات لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لدستور ليتوانيا وايضًا حوارًا دوليًا بلغة مشتركة ومفهومة حول شؤون أساسية"، بحسب ما ورد في كلمة رئيس المجلس الدستوري في ليتوانيا Dainius Zalimas. 

جمع المؤتمر الرابع حول موضوع: "دولة الحق والعدالة الدستورية في عالم اليوم" 422 مشاركًا من 91 دولة من القارات الخمس. هدف المؤتمر "توضيح التحديات والمعايير وإجراء جردة وإرساء قواعد قياس"، بحسب قول الأمين العام للمؤتمر الدولي Schnutz Rudolf Durr، بعد سنوات صاخبة منذ المؤتمر العالمي الأول وبخاصة منذ الحرب العالمية الثانية. تكرّرت عبارة تحديات ثلاث مرات في الكلمة الافتتاحية لرئيس لجنة البندقية في المجلس الأوروبي Gianni Buquicchio.

في الجو الهانئ لعاصمة ليتوانيا "وطن مُتعدد الحدود والذي عاش تاريخ الاحتلال والقمع وتعلّم عدم المساومة وكلفة دولة الحق"، اكتسب المشاركون ضرورة تجنب "القراءة الحرفية للقانون" بحسب قول رئيسة جمهورية ليتوانيا Dalia Grybauskaité وحظي المشاركون باستقبال حافل وتنظيم رائع وبرنامج ثقافي مُتكامل.

من المؤسف، كما في العديد من المؤتمرات العالمية المهمة، ملاحظة نسبة ضئيلة من المشاركة العربية مُقتصرة على خمس دول: لبنان، الجزائر، المغرب، مصر، موريتانيا، في حين تتوافر محاكم ومجالس دستورية في 15 دولة عربية. شارك في المؤتمر من لبنان رئيس المجلس الدستوري الدكتور عصام سليمان وكاتب هذه الخلاصة العضو في المجلس الدستوري. دول عربية مقهورة وتعيش المعاناة، او هي في حالة تحول ديموقراطي، بخاصة في ما يتعلق بفلسطين، يجب ان تُثير تساؤلاً عالميًا لدى ديموقراطيات توصلت اليوم نسبيًا الى حالة من الاستقرار والأمان. قبل انعقاد المؤتمر بأشهر عدة وُزعت على المجالس الدستورية الأعضاء، وعددها اليوم 111، شبكة أسئلة من صفحات كثيرة حول الحالة الراهنة في كل دولة بشأن "العدالة الدستورية ودولة الحق".

يُستخلص من أكثر من ثلاثين مُداخلة، وبعضها يتعلق بخلاصة الأجوبة على شبكة الأسئلة، وكذلك من المناقشات، أربعة توجهات تطبيقية.

1. استعادة روح الشرائع

يقول Jean Carbonnier: "القانون مصاب بالمرض". كل ظاهرة بشرية تحتوي على ظواهر مرضية وحالات صحية. أين تكمن اليوم التحديات وأين تكمن المعالجات؟ يُستخلص من المؤتمر الرابع ثلاثة توجهات:

1. المنظومة الثقافية المعولمة: يُلاحظ في مختلف أنحاء العالم "تنامي الخبث والريبة والتشاؤم والشعور بالعجز والشعبوية وتفاقم النزاعات. أي فرد يرتجل نفسه اعلاميًا فتدفع المؤسسات الديموقراطية كلفة التقهقر بدلاً من إرساء ديموقراطية ناشطة" (Richard Wagner، كندا). تكلم البعض عن "توجهات شعبية غير ليبرالية" (Ben Vermeulen، هولندا). وينتشر استغلال أداتي للقانون الذي يتحول الى مفتاح لكل شيء (Christoph Grabenwarter، النمسا). ويلاحظ "تسخير للدستور كغطاء لشرعية شكلية مما يؤدي الى دستور بدون دسترة" (Carlos Bernal Pulido، كولومبيا)، و"تماديًا في المقاضاة والشكل القانوني" (Christoph Grabenwarter، النمسا).

2. مساهمة العدالة الدستورية في إرساء معيارية القانون: ان طغيان مفهوم شكلي تقني للقانون، بدلاً من مفهوم الحق، يُحتّم العودة الى روح الشرائع بحسب الاباء المؤسسين. كانت مساهمة العدالة الدستورية في هذا السياق أساسية بخاصة في ما يتعلق بمبادئ الأمان التشريعي والترقب في وضع القوانين والثقة المشروعة والعدالة المتوازنة ودسترة كل الحقوق (Yi-Su Kim، كوريا الجنوبية). ما يدعم ذلك "وضوح القانون شكلاً ومضمونًا" (مراد مدلسي، الجزائر). يمكن هنا طرح السؤال الآتي: هل امتداد إجراءات الدفاع في العدالة الدستورية، الا في ما يتعلق بالنزاعات الانتخابية، يحوّل القضاء الدستوري الى محاكم عادية تفصل في خلافات بين الافراد على حساب الطابع المعياري للعدالة الدستورية؟

3. التراث الدستوري: في إطار الحلقة الخاصة بالمحاكم والمجالس الدستورية العربية طُرح موضوع التراث الدستوري العربي (عادل عمر شريف، مصر). يتعلق ذلك بالتعددية الحقوقية pluralisme juridique في إدارة التنوع الديني والثقافي والتي يقتضي عصرنتها. ويتعلق الموضوع أيضًا ببروز مفهوم القانون في التاريخ العربي.

2. لا ضمانة حقوق بدون دولة 

أثار بعض المداخلات التعارض المحتمل بين الدولة والحق والديموقراطية، ولكن بدون التركيز على هذه الإشكالية. تطلّب ذلك جهدًا للولوج في هذا السياق الذي يندرج في توجهين:

1. حالة الثقافة الديموقراطية: ورد في إحدى المداخلات: "دولة الحق والديموقراطية يُمكن أن تتعارضا في هوّة بين حركات شعبية والدولة". أين التضامن؟ (مراد مدلسي، الجزائر). في لائحة مؤشرات دولة الحق ما هو موقع الأخلاق؟ (ندير المومني، المغرب). الحاجة الى سيادة القانون طبعًا، لكن القانون وحده، وحتى القانون الأكثر تطورًا، لا يُؤسس لمجتمع، أي ما يجمع في العيش معًا بوئام وتضامن.

2. حقوق الدولة: ورد في مداخلة لم تُثر ردة فعل ملحوظة: "أفضّل الفوضى على الظلم".

يُظهر ذلك تجاهلاً حول الفوضى التي هي بالذات منبع ظلم. ارتفع حينئذ الصوت اللبناني في قاعة المؤتمر الرابع: لماذا ننساق اليوم في ذهنية ليبرالية موحشة دفاعًا عن حقوق أساسية في مواجهة الدولة؟ تبيّن المقارنة الانتروبولوجية التطبيقية ان الدولة الدستورية، بخاصة في الغرب وطوال أكثر من أربعة قرون، كانت ثمرة التطور في مواجهة تسلّط الاقطاع والامارات. لا ضمانة حقوقية بدون الدولة.

لا تعني الدولة النظام القائم ولا الحكّام، بل المؤسسة المتعددة الوظيفة والرمزية المولجة بتحقيق القانون. قبل الدولة الدستورية تتوافر تقاليد وعادات ومراقبة إجتماعية وقواعد ونُظم مبنية على توازن قوى... يعود اضعاف الدولة اليوم، حتى في الديموقراطيات المُسماة راسخة، الى بروز قوى اقتصادية وقوى سياسية عابرة للدولة وغالبيتها إرهابية، والى انتشار حروب بالوكالة في دول صغيرة ضعيفة أو مُستضعفة، وبخاصة الى امتداد الفردانية وذهنية التذمر والتشكي على حساب الصلة الاجتماعية.

تركّزت مداخلات عدة بوضوح، ولكن بعض الأحيان بشيء من التردد، حول ما يأتي: "خارج الدولة لا ضمانة للحريات" (Fernando Jorge Ribeiro، غينيا). وجاء أيضًا في مداخلة: "أولى الحريات هو الأمن" (Dominique Rousseau، أندورا). وفي مداخلة أخرى: "واجب الدولة ضمان أمنها" (Theodore Holo، بنين). وجاء أيضًا "ان حالة الطوارئ ليست بالضرورة خرقًا لدولة الحق، حيث يتوجب تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والمصلحة العامة والعمل بعض الأحيان على تفسير القوانين الداخلية بمقاربة دولية" (DaniusZalimas، ليتوانيا). في ما يتعلق "بتراتبية الحقوق" (Schnutz Rudolf Durr، الأمين العام للمؤتمر العالمي)، يتوجب التمييز بين حقوق الدولة، بمعنى الجماعة الوطنية والنظام العام والمصلحة العامة، وبين الحقوق الأساسية الفردية والاجتماعية.

3. المواطن كفاعل أساسي

هل يجوز للعدالة الدستورية أن تقتصر على مراجعات مؤسسية؟ يؤدي هذا الاختزال الى محدودية دولة الحق بالذات. تحول غالبًا توافقات بين النخب دون تقديم مراجعات لدى المجالس الدستورية بشأن قوانين تخرق صراحة الدستور.

يمكن ابراز تبريرين لصالح مراجعة المواطنين للعدالة الدستورية من خلال الدفع voie d’exception ومن خلال الشكوى plainte، مع تجنّب التضخم والمبالغة في المقاضاة. التبريران هما: تحقيق فعلي للعدالة بخاصة بالنسبة الى فئات مهمشة

(ChristophGrabenwarter، النمسا) وضرورة "الامتلاك الذاتي المواطني للقانون والدستور" (مراد مدلسي، الجزائر و Yi-Su Kim، كوريا الجنوبية)، لأن المواطن هو "ممتلك حق الدفاع عن الدستور وفاعل أساسي".

تتوافر ثلاث وسائل للمراجعة المواطنية بواسطة الدفع voied’exception ومن خلال النزاعات الانتخابية (Papa Omar Sakho، السنغال) أو من خلال الشكوى (Christoph Grabenwarter، النمسا).

4. استقلالية واستراتيجية ثقة 

خُصصت جلسة خاصة للبحث في "حصيلة استقلالية المحاكم والمجالس الدستورية". يمكن استخلاص ثلاثة توجهات في المداخلات والمناقشات:

1. التضامن بين القضاة حيال الضغوط: عرضت "وقائع" في الاستقلالية وحالات حيث افتقر القضاة الى الدعم من المجتمع (William Atuguba، غانا). في تركيا ورد دفاع حول اقصاء قضاة على أثر محاولة انقلاب. أثار الدفاع التبريري ردات فعل نقدية.

2. شخصية القاضي: يتوجب التمييز بين استقلالية القضاء بفضل أوضاع مادية وقانونية واستقلالية القاضي بالذات. "الاستقلالية هي مفتاح الديموقراطية وآخر حصن لسيادة الحق" (Richard Wagner، كندا)، حيث ان لا ديموقراطية بدون استقلالية المحاكم والمجالس الدستورية. في سويسرا يتم انتخاب القاضي من المجلس النيابي بدون أن يكون القاضي تابعًا لناخبيه (Ulrich Meyer، سويسرا).

ان صفات القاضي الشخصية: حرية، ضمير، مسؤولية، مناقبية... تُشكل الضمانة الأساسية

(Dominique Hernandez Emparanza، تشيلي)، حيث ان الاستقلالية ليست "حقا للقاضي" بل ضمانة للمتقاضين (Richard Wagner، كندا). لا يجوز بالتالي "تعيين أيٍّ كان في سلك القضاء بحيث يُدرك السياسيون أنهم لا يستطيعون تدجين القضاة لأي غرض" (Oumarou Narey، نيجيريا).

3. استراتيجية ثقة وشفافية: في مواجهة مفهوم تقليدي سائد حول موجب التحفظ والذي يجب أن يقتصر على سرية المداولات وفي ما يتعلق بالقضايا التي يمكن أن تُطرح على المجالس الدستورية، يُمكن استخلاص توجهات عدة، أبرزها "قبول وعدم منع الانتقاد المؤسسي والذي لا يسيء الى المحكمة"، حيث ان النقد مشروع، وممارسة الشفافية التي توفر الثقة بقرارات المحاكم وبالقضاة (Richard Wagner، كندا)، والتضامن بين القضاة (Didier Lenotte، موناكو). يوفر لبنان الذي ذُكر مرتين في خلاصة التقارير الوطنية مثالاً في التضامن على إثر أزمة مؤسسية. ان محضر سنة 2014 للمجلس الدستوري اللبناني الذي وقّعه الأعضاء العشرة بالإجماع حول استقلاليتهم يُشكل نموذجًا في التضامن الداخلي بالرغم من المصاعب.

تُشكل شبكة المعلومات Codices للجنة البندقية والتي تتضمن أكثر من 9000 حالة مع فهرست "وسيلة دائمة للتبادل وتراثًا دستوريًا مشتركًا" (Schnutz Rudolf Durr). أما المؤتمر الخامس فسوف يعقد سنة 2020 في الجزائر.

عضو المجلس الدستوري في لبنان 

■ 11/14 أيلول 2017.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (1)
التاريخالاسم عنوان التعليق
19/10/17الياس البراجالمجالس الدستورية عالميا
للاستفادة في البجث عن الوعي الديمقراطي والاعلام الجديد

اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة