ما إن أعلن مسعود بارزاني عن قرار إجراء الاستفتاء، حتّى انطلق تعيـير الأكراد بحبّ إسرائيل: «أنتم حلفاء بل شركاء بل عملاء للإسرائيليّين». وظهر من ينبش في التواريخ، بل من يؤلّف التواريخ، للبرهنة على وحدة حال بين الطرفين.
لنبدأ من المربّع الأوّل: قضيّة فلسطين، والأدقّ قضيّة الفلسطينيّين في دولة مستقلّة، حقٌّ لا يماري فيه عاقل عادل وصادق. والحالة المثلى هي أن يكون كلّ صاحب حقّ مؤيّداً لكلّ القضايا المحقّة في العالم ومتعاطفاً معها.
هذه الحالة المثلى ليست دائماً حالة سياسيّة واقعيّة. وقد سبق للأكثريّات العربيّة، وباسم الحقّ القوميّ والاستقلاليّ والعداء للهجرة اليهوديّة، أن تعاطفوا مع هتلر والنازيّة. ثمّ تعاطفوا، باسم الحقّ نفسه، مع نظام الغولاغ السوفياتيّ، وتعاملوا مع ضحاياه، الذين يريدون أن يتنفّسوا وأن يسافروا وأن يعبّروا، بوصفهم جواسيس، بعدما فركوا أيديهم فرحاً بمشهد الدبّابات السوفياتيّة في 1968 تسحق ربيع براغ.
هذه مواقف لا تشرّف أصحاب الحقوق، بل تسيء إلى حقوقهم وتقلّلها. أسوأ من ذلك أنّ الاعتذار عن تلك المواقف لم يتحوّل حتّى اليوم إلى تيّار ملحوظ في الحياة الثقافيّة والفكريّة العربيّة...
على نطاق أضيق وأكثر مباشرة، لم يتردّد عراقيّون يلوّحون اليوم بالصداقة بين الأكراد وإسرائيل في معاملة الفلسطينيّين أسوأ معاملة ممكنة. حصل هذا بعد حرب 2003 مباشرة، ولا يزال العراقيّون والفلسطينيّون يذكرونه. لقد وُضع الحقّ العراقيّ في التخلّص من صدّام في مواجهة مدنيّين أبرياء يُفترض أنّ الحقّ العراقيّ أخ شقيق لحقّهم. ونعرف جيّداً، في سوريّة كما في لبنان، كيف تحالف الصراخ والحماسة للقضيّة الفلسطينيّة مع أقصى الدناءة في التعامل مع الفلسطينيّين. كيف خيضت «حرب المخيّمات» على الفلسطينيّين في لبنان الثمانينات بهدف «مساعدتهم» على «تحرير فلسطين»!؟
والفلسطينيّون أنفسهم، عبر أكثريّاتهم العريضة، لم يكونوا دوماً متجانسين مع الحقّ الذي يحملونه. فهم تعاطفوا مع غزو صدّام حسين للكويت، قبل أن يتعاطفوا مع سحق بشّار الأسد لثورة أغلبيّة السوريّين المطالبة بالحرّيّة. وهم شاركوا في حروب أهليّة في الأردن ولبنان كانت ذنوبهم فيها ضدّ حقوق اللبنانيّين والأردنيّين مساوية لذنوب اللبنانيّين والأردنيّين ضدّ حقوقهم.
وهناك في تاريخ الأحزاب، كما نعلم، حالات من التناقض بين ما يراه الحزبيّون حقّاً، وما يراه رفاق لهم حقّاً. من نتائج ذلك كان غضّ الاتّحاد السوفياتيّ النظر عن ذبح أحزاب شيوعيّة كثيرة، تبدأ باليونانيّ في عهد ستالين ولا تنتهي بالعراقيّ في عهد بريجنيف وأندروبوف.
فلماذا يُطالَب الأكراد دون سواهم بأن ينضبطوا ضمن معادلة التطابق الأمثل بين السياسة والحقّ؟ أم أنّ ما يجوز للسيّد لا يجوز لعبده؟ وهذا مع العلم بأنّ ما يُتّهم به الأكراد لا تشوبه دناءة بعض الأعمال الموصوفة أعلاه، ولم يتسبّب بدم كالذي تسبّبت به.
أمّا في ما يخصّ الأكراد وإسرائيل تحديداً، فإنّ الدولةَ العبريّة الدولةُ الوحيدة التي رحّبت بإجراء الأكراد استفتاءهم. رحّبت، بالطبع، لأغراض غير منزّهةٍ تخصّها وحدها، لكنّها فعلت هذا على مقربة من الأنياب المكشّرة في وجه الأكراد على امتداد المنطقة. فهل يُطلب من الأكراد، والحال هذه، أن يحرقوا العلم الإسرائيليّ؟ ثمّ، ما هو الدَين الذي سلّفناه، نحن العرب، للأكراد كي ننتظر منهم هذه الحماسة الإستثنائيّة في كراهية إسرائيل؟
إلى ذلك فالقضيّة الفلسطينيّة هي، أقلّه منذ عهد صدّام حسين، أكثر ما استُخدم ضدّ قضيّة الأكراد وحقّهم، تماماً كما استخدمها لاحقاً بشّار الأسد ضدّ قضيّة السوريّين في اقتلاع نظامه. وغنيّ عن القول إنّ سلوكاً كهذا يترك ندوباً وتأثيرات نفسيّة على ضحاياه، خصوصاً حين لا ترتفع أصوات فلسطينيّة قويّة تدين هذا الاستخدام وتعترض عليه.
يبقى أنّ هناك في منطقتنا ما يمكن أن نسمّيه نظام الابتزاز بإسرائيل. ويعرف المسيحيّون اللبنانيّون أكثر من سواهم كيف أخضعتهم سنوات الوصاية السوريّة للابتزاز المذكور الذي لم تنجُ منه القيادة الفلسطينيّة نفسها حين أرادت أن تستقلّ بقرارها الوطنيّ عن الرغبة الأسديّة.
وهذا على عمومه دجل يسهل مبدئيّاً فضحه. ما يجعله عصيّاً على الفضح استناده إلى «وطنيّة» ملاّكي العبيد التي تعتبر أنّـ«ـنا»، أهل الدم الأزرق، يجوز لنا كلّ شيء، وأنّـ«ـهم»، هم الذين بلا دم، لا يجوز لهم إلاّ ما نُجيزه نحن لهم. وما داموا بلا دم، صار جائزاً هدر دمهم.
|