يتولد لدى زائر نيويورك، قبل أسبوع، انطباع أكيد بأن الدول «الصديقة» للشعب السوري لم تعد مهتمة بسقوط رئيس النظام السوري بشار الأسد، فجميع المسؤولين والديبلوماسيين الذين كانوا يدورون في أورقة الأمم المتحدة على هامش دورة الجمعية العامة أو في أبهاء الفنادق الفخمة في محيط الأمم المتحدة في قلب المدينة، كانوا يكررون بتهذيب شديد أنهم، على رغم اعتبارهم الأسد «مجرم حرب،» لا يملكون الوسيلة لإجباره على الرحيل.
يتفق معظم هؤلاء المسؤولين والدdبلوماسيين على أن الأسد لا يمكن أن يلعب دوراً في مستقبل سورية، ولكنه سيبقى على الأرجح في المرحلة الانتقالية. وهم يعترفون بأنهم عاجزون عن إجبار الرجل على الرحيل أو إقناع الروس حالياً بضرورة التخلي عنه. ثمة مفارقة ههنا: فمن جانب يعتقد الجميع أن سورية المستقبلية ستكون من دون بشار الأسد، وفي الوقت نفسه لا يملك أحد القوة لإجباره حالياً على الرحيل. فما العمل؟
يبدو أن الاتجاه العام لدى الإدارة الأميركية والغرب حالياً هو أن إعادة الإعمار في سورية لن تأتي إلا بعد الانتقال السياسي، بما في ذلك رحيل الأسد. وقد قرر مجلس الشيوخ الأميركي قبل أسبوعين أنه لا يمكن إنفاق قرش واحد في أي منطقة في سورية يكون فيها تواجد أو نفوذ إيراني. وكرر مسؤولون أميركيون علانية وفي اجتماعات مغلقة هذا الأمر: لا إعادة إعمار في ظل الوضع الحالي.
يستطيع الأسد ومن ورائه الروس والإيرانيون إذن الاستمتاع بانتصارهم وحكمهم لبلد مدمَّر ومقسَّم وخالٍ من نصف سكانه ونصف طاقته الإنتاجية ومسلوب من سيادته الوطنية. وأهم من ذلك، يمكن للأسد الاستمتاع بحكم شعب «متجانس» لا مكان فيه لـ «الإرهابيين»، ولكنه، من دون شك، لم يعد تلك الدجاجة الذهبية التي كانت تسهم قبل الثورة في تكديس ثروات آل الأسد ومخلوف وشاليش ورفاقهم.
الإيرانيون ليست لديهم مشكلة في حكم بلد مدمر ومنهك وبلا سيادة وطنية، فقد أسهموا هم في ذلك كلّه، وسيكون تهالك مؤسسات الدولة السورية عاملاً مساعداً لاستمرار سيطرتهم على البلد والمنطقة ككل، وهم فعلوا الشيء عينَه في لبنان والعراق، عندما ساعدوا على تفتت الدولة وإضعاف مؤسساتها، لكي تتمكن الميليشيات التابعة لها (حزب الله والحشد الشعبي) من السيطرة على مقاليد الأمور في البلدين.
ولكن ماذا عن الروس؟ يسود اعتقاد في الدوائر الغربية بأن روسيا تختلف عن إيران بأنها لا تريد بلداً ممزقاً واقتصاداً متهالكاً وأمة مفتتة في سورية. هي تريد سورية قاعدة متقدمة لها ومصدراً للكسب المادي، وستكون دولة موحدة وقوية تدور في فلكها أفضلَ من عصابات ودويلات أو دولةٍ ضعيفة بلا مؤسسات. ولكي يتحقق ذلك لا بديل عن إعادة الإعمار لأن ذلك سيكون المكافأة الحقيقية لروسيا على الاستثمار الكبير الذي وضعته في سورية. وبديهي أن فاتورة إعادة الإعمار ستكون باهظة جداً، فالتقديرات الأولية تشير إلى رقم يتفاوت بين 200 و300 بليون دولار لذلك. ويعرف الروس كما يعرف الأسد وغيره أن روسيا والصين وفنزويلا وكوريا الشمالية وإيران لن تساهم بقرش واحد في إعادة الإعمار. وهم يعرفون أن أوروبا والولايات المتحدة وكندا واليابان والخليج هم من سوف يقومون بذلك.
ولكن هؤلاء كرروا لكل من التقوه في نيويورك أن محفظة نقودهم لن تُفتَح قبل الانتقال السياسي. وهم بدوا جادّين تماما في ذلك. بدلاً من ذلك سينفقون بعض المال من أجل ما سمّوه «التعافي المبكر»، وهو تقديم مساعدات ماسة للجوانب الحياتية الضرورية من ماء وكهرباء وتعليم وصحة. والمعارضة السورية تصرّ أن يبدأ هذا التعافي في مناطق خفض التصعيد، وليس في مناطق النظام، لتكون أساساً لعودة الحياة الطبيعية إليها ورجوع اللاجئين والمهجرين إلى منازلهم، وخلق فرص عمل تثني الشباب عن التحاقهم بالفصائل العسكرية.
ولكن من أجل انتقال سياسي حقيقي، يجب إيجاد معارضة موحدة وقوية ومنسجمة. لقد كانت هذه المشكلة على الدوام أمَّ المشاكل في المسار السياسي، كما في مسارات القتال والعمل المدني والمجالس المحلية. لذلك، يبدو الغرب – ومعه بعض دول الخليج – مصراً هذه المرة على إيجاد مثل هذه المعارضة. ويراهن الجميع على الاجتماع الموسع للهيئة العليا للمفاوضات في الرياض المتوقع عقده بعد أسابيع، إن لم يعق ذلك عائقٌ. بيدَ أنَّ التيَار الرئيسي في المعارضة السورية الممثلة في الهيئة العليا مصمم على ألا يفتح ابوابه لأشخاص يلتقون مع بشار الأسد أكثر من التقائهم مع رياض حجاب ورياض سيف. وهو، وإن كان منفتحاً على ضمّ بعض القوى والشخصيات من خارج الهيئة، فإن ذلك لن يشمل من يسعى إلى بقاء الأسد في السلطة وتشكيل حكومة وحدة وطنية بدلاً من هيئة حكم انتقالية.
ولنفرض أن مثل ذلك تحقق وأن اجتماع الرياض 2 أسفر عن هيئة جديدة قوية للمفاوضات بصلاحيات جديدة وبرنامج سياسي مرن تكتيكياً وصلب استراتيجياً، فكيف العمل على إسقاط الأسد؟ ثمّة اتفاق واضح بين المسؤولين الغربيين على أن مسار المفاوضات في آستانة وصل إلى طريق مسدود، ولذلك لا بد من العودة إلى المسار الأساسي في جنيف، وهو ما يدفع إليه الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص ستيفان دي ميستورا. وهم يحسبون أن اتفاقاً سياسياً حقيقياً سيقنع الروس بإمكان إجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة قد تؤدي إلى خسارة الأسد، وسيضمن الروس التزام الأخير بنتائج الانتخابات فيغادر البلاد.
تبدو الصورة هنا وردية وساذجة. فمن جانب يعتقد كثير أن روسيا (وإيران) تعتبر بقاء الأسد رمزاً لانتصارها وأنها ستدعم استدامة هذا الرمز. وهؤلاء يرون أن الفصل بين روسيا وإيران غير ممكن بسبب ارتباط مصالح الدولتين. وأخيراً يدرك الجميع أن الأسد قد يفضل الموت على تسليم «المزرعة» التي ورثها عن أبيه، قبل أن يورثها ابنه. يهز المحاور الغربي رأسه موافقاً معك، ولكنه يتابع بعد لحظة صمت: «نعم، ولكن هذا هو السبيل الوحيد أمامنا». وعندها لن ترى مناسباً أن تذكره بقضايا العدالة الانتقالية والمساءلة ومحاكمة مجرمي الحرب من أي طرف كانوا. |