تثير الانتخابات التي أجريت في مناطق سيطرة «قوات سورية الديموقراطية»، التي يقودها حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي)، أخيراً، والتي يستهدف من خلالها تشكيل «المؤتمر الديموقراطي الشعبي» لفيديرالية شمالي سورية (بداية العام القادم)، ثلاث قضايا: الأولى، تفيد بوجود مسألة كردية في سورية. والثانية، تفيد بوجود مسألة كردية في إطار المعارضة. والثالثة تفيد بضرورة التوافق على شكل سورية المستقبل، لا سيما مضمون نظامها السياسي.
المسألة الأولى معروفة، باعتبارها نتاجاً للسياسات التي انتهجها نظام الاستبداد، الذي يحكم سورية منذ قرابة نصف قرن، كسلطة طاغية، همّشت الدولة، باعتبارها دولة مؤسسات وقانون، ومحت المواطنة، بإنكارها حقوق كل السوريين، انطلاقاً من شعار: «سورية الأسد إلى الأبد»، واعتبارها البلد مزرعة أو ملكية خاصة لتلك العائلة. لذا، فما ينطبق على السوريين هنا ينطبق على كل مكونات الشعب، ويأتي ضمن ذلك التنكّر للأكراد كمواطنين وكجماعة قومية، وطمس هويتهم، وإنكار حقوقهم الفردية والجمعيّة.
أما المسألة الثانية، فتفيد بوجود «مسألة كردية» في المعارضة، أيضاً، تبعاً لمسائل عدة، أولاها، افتقاد معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، لا سيما كيانها الرسمي (الائتلاف)، لتصورات مناسبة أو لمقاربة سياسية في شأن كيفية حل المسألة القومية في سورية، ضمن قصور رؤاها في شأن سورية المستقبل. وثانيتها، التعامل مع المسألة الكردية بطريقة جزئية أو إنكارية، إن باعتبار الأمر يتعلق بحقوق المواطنين فقط، مغطية ذلك بطرحها فكرة دولة مواطنين مدنية وديموقراطية، علماً أن حتى هذه الفكرة ما زالت مشوّشة، بل وموضع تساؤل لدى بعض أوساط المعارضة، بحكم ضعف إدراكات هذه الأوساط لمعنى ومكانة المواطنة في فكرها السياسي، في ما يتعلق بالكرد فقط وحتى في ما يتعلق بالمواطنين العرب السوريين ذاتهم. أو بنفي وجود مسألة كردية، مع حظر طرح هكذا قضية، إن باعتبار الكرد، كجماعة، ليس لهم حق في سورية، كأنهم هبطوا بالبراشوت وكأن لا تاريخ ولا ثقافة لهم في المنطقة، أو تحّسباً لما يعتقد أنه محاولة لتقسيم سورية، في رؤية ساذجة، تنطوي على إعلاء شأن تقسيم الأرض والاستهانة بتقسيم المجتمع، أي من دون إدراك أن لا وحدة لأرض أو لنظام سياسي من دون وحدة المجتمع، الذي يتكوّن من مواطنين أفراد، على تنوعهم وتعدديتهم، الإثنية والدينية والثقافية واللغوية.
وينطوي ضمن ذلك، أيضاً، الحديث عن حقوق تاريخية ووافدين في قرون ماضية، كأن القوميات أو الأوطان هي تنزيل سماوي، من الأبد إلى الأبد، وليست معطى تاريخياً حديثاً، وهنا يبدو مناهضو سايكس - بيكو بوصفهم أكثر المؤمنين بهذه الاتفاقية، التي رسمت حدود معظم بلدان المشرق العربي مطلع القرن الماضي. وثالثتها، تتأتى من ضعف تمثيل الأكراد في كيانات المعارضة الرسمية، إذ إن كيانهم الأكبر، والأكثر نفوذاً (حزب الاتحاد الوطني)، الذي أضحى يسيطر على حوالى 20 في المئة من سورية، مع قوات كبيرة، ما زال خارج حسابات المعارضة، التي تعتبره خصماً وربما حليفاً للنظام، في نظرة قاصرة، ناجمة عن ضعف حساسية بعض أوساطها لمكونات الشعب السوري، وحاجاتها، وأولوياتها. ورابعتها، تنبع من التعامل مع المسألة الكردية وفقاً لحسابات إقليمية خارجية، وليس باعتبارها مسألة وطنية سورية، وتخصّ التحول الوطني والديموقراطي في سورية. وخامستها، تلاحظ من تعامل معظم أوساط المعارضة وفقاً لمعايير مزدوجة، إذ يتم السكوت عن الرايات الخاصة لمعظم الفصائل العسكرية الإسلامية، وممارساتها الهيمنية على السوريين في المناطق التي تسيطر عليها، وضمن ذلك فرض تصوراتها الأيديولوجية المتطرفة عن الإسلام بالعسف والإكراه، في حين يتم توجيه اللوم والإدانة لمواقف وممارسات «قسد» وحزب الاتحاد الوطني، الذي يقودها.
ومعلوم أن هذا السكوت يشمل حتى «جبهة النصرة»، التي ظلت بعض أوساط المعارضة تجاملها، مع أنها لا تحسب نفسها على المعارضة، وعلى رغم أنها ركّزت على تصفية الجيش الحر، وتطفيش النشطاء السياسيين، ومعاداة مقاصد الثورة الأساسية (الحرية والمواطنة والديموقراطية)، ما أضر بالثورة وبالشعب وبالتيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة، مقدمة خدمة للنظام، الذي ظل يروج لاعتبار أن الأمر يتعلق بالصراع ضد الإرهاب والجماعات الدينية المتطرفة.
أخيراً، المسألة الثالثة، المتمثلة في افتقاد معظم أوساط المعارضة لرؤية جمعية بخصوص سورية المستقبل، ومضمون نظامها السياسي، فهذه ظهرت بعد إزاحة المقاصد الأساسية للثورة (التي ذكرناها)، وتصدر الجماعات المسلحة المتغطّية بالإسلام، مع خطاباتها السياسية المتطرفة والمتعصبة. وقد نجم عن ذلك أن هذه الأوساط نظرت بطريقة عدائية لنشوء الإدارات الذاتية في المناطق التي سيطرت عليها «قوات حماية الشعب» الكردية، وفيما بعد قوات سورية الديموقراطية، مع أنها سكتت عن تدهور الأحوال في «المناطق المحررة» الأخرى، كما تعاطت مع بعض أطروحات حزب الاتحاد الوطني باعتبارها تصدر عن جهة عدوة، ومؤامرة تستهدف تقسيم سورية.
فمع كل ملاحظاتنا، وإدانتنا، للممارسات التعسفية التي انتهجتها القوات التابعة لهذا الحزب ضد الأكراد والعرب، في المناطق الخاضعة لها، وتحفظاتنا على السياسات الإقصائية والهيمنية التي انتهجها الحزب المذكور، وتعامله كجزء من المسألة الكردية في تركيا، وكامتداد لحزب العمال الديموقراطي، فإن كل ذلك لا يمنع المعارضة من بناء سياسات تأخذ في اعتبارها المسألة الكردية في سورية، وتوق الكرد للخلاص من الاستبداد، ومن عمليات المحو القومي، والتعبير عن ذاتهم كشعب، وكجزء من أمة أكبر. كما أن ذلك لا يمنع من البناء على بعض المواقف والممارسات التي ينادي بها هذا الحزب، الذي يدعو لبناء دولة واحدة ديموقراطية وفيديرالية. وفي الواقع، فإن النظرة القاصرة والساذجة لطرح الفيديرالية، القائمة على أساس جغرافي (ليس إثنياً أو طائفياً)، واعتبارها دلالة على التقسيم، أو مؤامرة خارجية، تتناسى أن أهم دول العالم فيديرالية، وأن الحكم المركزي صنو الاستبداد، أو يفضي إليه، وأن وحدة المجتمع، المؤلف من مواطنين مختلفين، هو الذي يعزز وحدة الأرض والدولة، وليس العكس.
المعنى أن قصور رؤية المعارضة للمسألة الكردية ناجم عن قصور رؤيتها لسورية المستقبل ولشكل نظامها السياسي، وبالعكس، لذا لابد من استعادة مقاصد الثورة الأساسية، وهذا لا يتأتّى إلا برؤية وطنية جمعية تتأسس على دولة مواطنين أحرار ومتساوين ودولة ذات نظام فيديرالي وديموقراطي. |