في تقدير موقف تحت عنوان «سياسة فرض الاستقرار الروسية... حصاد القوة المفرطة» (مركز جسور للدراسات: 14/9/2017) قراءة ملفقة للدور الروسي في الصراع في سورية وعليها.
انطلق التقدير من مقدمات خطيرة مثل «استخدامها [روسيا] القوة المفرطة في بداية تدخلها كان ضمن رؤية سياسية متكاملة»، وهذه «مكّنتها من تحقيق ما فشل النظام وداعموه الإيرانيون في تحقيقه في أربع سنوات»، نجاحها في «تفكيك المعادلة السورية» و «إعادة ترتيب أجزاء اللوحة المفككة» و «بناء علاقات مع مختلف الفاعلين على الساحة السورية، من المحليين والإقليميين، ولم تحصر شراكاتها في المعركة مع إيران والنظام السوري». و «نقلت الجانب الإيراني إلى طرف هامشي في معادلة المعسكر المؤيد للنظام، ثمّ تولّت تحييد بقية الفاعلين المنافسين للنظام، سواء على المستوى الدولي والإقليمي، أو حتى على المستوى الفصائلي». و «إلى جانب التعامل مع الفاعلين المعارضين للنظام، قامت روسيا بعملية طويلة المدى لإعادة تشكيل النظام ذاته، ليكون قابلاً للتعامل مع شكل الحل السياسي الذي تُريده، وفرضت تغيّرات اجتماعية وسياسية في المناطق التي يُسيطر عليها النظام، وأعادت تكوين الصورة الذهنية لدى السكان عن الوجود الروسي».
تفتقر هذه المقدمات/ الاستنتاجات إلى الدقة والموضوعية وتغرق في رؤية تجميلية للعنف المفرط والوحشية المدمرة التي اتبعتها روسيا في حملتها ضد معارضي النظام بربطها بهدف سياسي سامٍ: الحفاظ على الدولة السورية، وهذا، مع ما فيها من مغالطات وتعسف، قاد إلى وقوع التقدير في أخطاء فادحة إن لجهة قراءة الوقائع أم تقويم المواقف.
قال التقدير: «استطاعت روسيا منذ الربع الأخير من عام 2016 إعادة إنتاج صورتها لدى المعارضة في داخل سورية، حيث تحوّلت إلى وسيط وضامن، وأصبحت المعارضة- وحاضنتها الشعبية- ترفض القبول بأي اتفاق ما لم يكن بضمانة الطرف الروسي، وأضحى وجود الشرطة العسكرية الروسية في أي منطقة سبباً كافياً لشعور السكان بالأمان». في تجاهل تام للسياق الذي حصل فيه قبول فصائل معارضة التفاوض مع روسيا والمشاركة في محادثات آستانة، ومن دون إشارة إلى دور تركيا في ذلك، والى حضورها(الفصائل) الشكلي في هذه المحادثات وقيام روسيا وإيران وتركيا بصياغة اتفاقات والتوقيع عليها بمعزل عنها، وعن وفد النظام كذلك، ولكنه عاد وناقض نفسه حين قال: «ومن المعتقد أن مؤسسات المعارضة السياسية ومعظم شخوصها ينطلقون في مواقفهم من الوجود الروسي(تعتبره احتلالاً لابدّ من انتهائه) من رغبات في تحقيق شعبية لدى جمهور المعارضة».
لم يكتف التقدير بمغالطاته على صعيد الدور الروسي مع المعارضة وحواضنها الاجتماعية بل راح يروج لممارسات لا تمت للواقع بصلة حيث زعم التالي: «وعمل الروس على نشر الشعور بالاستقرار لدى السكان، حيث عملوا على رفع الحواجز الأمنية في كل مناطق سيطرة النظام، وهي الحواجز التي كانت منتشرة في شكل كبير جداً في كل المناطق، كما اختفت الميليشيات من مناطق سيطرة النظام، وتم تحديد أدوار ما بقي منها». وأضاف: «وانخفض عدد الاعتقالات السياسيّة في شكل كبير، كما حصل انفتاح على تراخيص منظمات المجتمع المدني في شكل كبير، على رغم محدودية قدراتها على التأثير السياسي. وقامت أفرع الأمن السياسي وأمن الدولة في النصف الثاني من عام 2017 بضغطٍ روسي باستدعاء معارضين ونشطاء معروفين في مختلف مناطق سيطرة النظام في شكل ودّي، بطريقة مشابهة لسلوك هذه الأجهزة في 2001-2002، ودعت هؤلاء المعارضين لتفعيل العمل السياسي المعارض». فلا الحواجز رفعت، رفع بعضها وأعيد ثانية بعد أيام، ولا الاعتقالات تراجعت، ولا الانفتاح السياسي على نشطاء حصل.
بعد هذه المغالطات الشنيعة، يطرح التقدير سؤالاً مركزياً: ماذا تريد روسيا في سورية؟ ويقدم إجابة غريبة وصادمة «تُظهر المعطيات السياسية أن روسيا لا تتمسّك بالأسد كشخص»، و «تتمسك بالمقابل بوجود نظام قوي في دمشق يحفظ المصالح الروسية بعيدة المدى في سورية»، و «تُدرك روسيا أن الحفاظ على الدولة السورية يقتضي إشراك أكبر عدد من الفاعلين، بمن فيهم المعارضون للأسد من غير الراغبين بتغيير شكل الدولة، وتحييد الفاعلين الرافضين الحل السياسي، في نظام هجين لا يوجد فيه منتصر»، و «ترغب روسيا في تحجيم النفوذ الإيراني في سورية، وإعادة القوة الإيرانية إلى داخل الحدود الجغرافية الإيرانية»، «ويعني تحجيم الدور الإيراني بالضرورة تقليص حجم حزب الله السياسي والعسكري في لبنان والمنطقة، وهو ما تسعى له روسيا». وختم إجابته بقوله: «يعتقد أن روسيا ستستمر في وجودها في سورية لمدى طويل، من أجل تحقيق دورين أساسيين، أحدهما سياسي وآخر ديموغرافي. الدور الأول، بصفتها قوة كبرى تحمي مصالحها بالوصول إلى المياه الدافئة، ويتمثل في ضمان حماية منطقة جغرافية متصلة قابلة للحياة، وهو ما تسميه بـ «سورية الفاعلة»، أو تمكن تسميتها بـ «سورية الصغرى»، والدور الديموغرافي (وصفه بدور ديموغرافي غير مفهوم) لروسيا بصفتها قوة مسيحية أرثوذكسية تحاول تحقيق حلمها التاريخي بوجودها بثقلها الديني في المنطقة منذ الإمبراطورية العثمانية، ويتمثل في خلق دولة أقليات نخبوية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ومثالاً لتعايش المكونات معاً».
لم يحصل ما يثبت توجه روسيا «لإعادة القوة الإيرانية إلى داخل الجغرافية الإيرانية»، ولا العمل على «تقليص حجم حزب الله السياسي والعسكري في لبنان والمنطقة»، ثم كيف يتسق الحفاظ على الدولة السورية ووجود نظام قوي في دمشق يحفظ المصالح الروسية بعيدة المدى في سورية، ألا تتعارض التبعية مع السيادة التي هي جوهر الدولة؟
وقد كان لافتاً تجاهل التقدير للولايات المتحدة الأميركية ودورها في سورية ونشرها قوات على الأراضي السورية وإقامتها قواعد ثابتة (8 قواعد) ومفاوضاتها مع روسيا حول الحل في سورية، وتأثير ذلك في مستقبل سورية والدور الروسي فيها، وإطلاقه وصف «أزمة» على ما يجرى في سورية (وردت هكذا 3 مرات).
يبقى أن نسأل هل وقع التقدير في كل تلك المغالطات والاستنتاجات الفجة بسبب حَوَل سياسي أصاب معديه أم تبريراً لموقف تركيا وتعاونها مع روسيا (مقر المركز في تركيا له فرعان في اسطنبول وغازي عنتاب)، أم على خلفية سعي جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تمتلك المركز وتديره، لكسب ود روسيا من أجل دور ما في سورية. * كاتب سوري |