يبدو أن الاستفتاء الكردي في 25 أيلول (سبتمبر) لا لزوم له، فنتيجته واضحة لا شك فيها. إلا أن الإصرار عليه اتخذ منحى خطراً ستترتب عليه تداعيات واسعة لم تعد متّصلة بمسألة الاستفتاء فحسب، بل بالصراع على السلطة في بغداد في شكل قد يندم عليه الأكراد أنفسهم.
لا شكّ في أن للأكراد حقاً لا نقاش فيه بتقرير مصيرهم، والاستقلال عن العراق لبناء دولتهم الخاصة. فللأكراد إثنية ولغة وثقافة؛ والأهم أنهم يشعرون بهويتهم المختلفة والمستقلة. والحال أن الإحساس لديهم بالانتماء إلى العراق لا يكاد يذكر، مقابل رغبة جامحة في إقامة دولتهم الخاصة. كما أن تاريخ العراق منذ الاستقلال لم يكن يوماً مشجعاً للتعايش بين العرب والأكراد في بلد واحد. وباستثناء فترة وجيزة في عهد الملك فيصل الأول، وخلال فترة وجيزة مباشرة بعد الانقلاب ضد النظام الملكي، كان التاريخ دوماً عبارة عن أعمال عنف متقطعة بين الأكراد والدولة العراقية تختلف من حيث اشتداد الصراع والدماء المسفوكة. وقد سفك الدم الكردي والدم العربي في حروب متكررة. وكان من المفترض أن يكون كل ذلك كافياً لإقناع العرب في العراق بأن الأكراد يجب أن تكون لهم دولة منفصلة، وبأن إبقاء الأكراد في العراق لم يفد أحداً. وليس هناك حاجة إلى مناقشة القضية على أساس «خرق الدستور»، أو توزيع الإيرادات، أو سياسات النفط. في هذه المجالات، الاتهامات متبادلة وكل من الحكومة الكردية والحكومة الوطنية مذنب.
حالياً، توقد مفردات الوطنية والخيانة نار البلاغة. بين الأكراد والعرب على حدّ سواء، إذ أصبح تأييد الاستفتاء أو معارضته - وبالتالي استقلال الإقليم الكردي – اختباراً في الوطنية. فالكردي الذي لا يؤيد الاستفتاء هو «غير وطني». والعربي الذي يدعم الاستقلال الكردي هو «غير وطني» أيضاً. «انعدام الوطنية» خيانة، وهذه المنافسة المفتعلة على الوطنية تقتل الحوار والمداولات وتشجّع على رفع مستوى المزايدات، ما يؤدي حتماً إلى العنف والعدوان. ومن شأن هذا الوضع أن يؤثر في توازن القوى السياسية في بغداد مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في نيسان (إبريل) 2018. في السنوات التي تلت عام 2003، خلال صياغة الدستور وبعده، اعتبر العراقيون الليبراليون الأكراد حصناً ضد الأجندة المحافظة جداً للأحزاب الدينية التي هيمنت على البرلمان والوزارات. وقد دعم الأكراد قوانين أكثر ليبرالية في شأن الأحوال الشخصية والحريات الشخصية ووضع المرأة بثقل يفتقر إليه الليبراليون في أجهزة الدوله. لكن في الآونة الأخيرة، نأى الأكراد بأنفسهم عن القضايا الوطنية التي لا تؤثر فيهم مباشرة. وفي هذا المناخ من الاستقطاب، يسكت الرأي المعتدل والليبرالي، ويخسر الأكراد والليبراليون الحلفاء.
وإذ يواصل رئيس الوزراء حيدر العبادي اعتماد منطق يدعو إلى التحكيم والحوار ورفض الصراع، يصعّد مشاركون سياسيون آخرون نبرتهم إلى حدّ خطير في بغداد وإربيل، ويتّخذون خطوات تزيد من حدّة التوتّر. وقد صعّد الأكراد وتيرة الخلاف القائم، إذ عمدوا إلى نشر عناصر البيشمركة وفرضوا سيطرتهم العسكرية على كركوك وخانقين ضمن محافظة ديالى، وسنجار ومناطق في سهل نينوى، وطوز في محافظة صلاح الدين – وهي مناطق لم تخضع لسيطرة حكومة إقليم كردستان سنة 2003، بل بقيت تابعة لسلطة بغداد حتى سنة 2014. واليوم، يطالب الأكراد بإجراء الإستفتاء في هذه المناطق باعتبارها كردية. ومع استحداث هذه «الوقائع الميدانية» الهادفة إلى منع عودة سيطرة الحكومة العراقية، استفزّت القوى السياسية في بغداد، والسكان غير الكرد في هذه المناطق. ولم يصدر الاعتراض الأكثر ضراوةً على توسّع الأكراد عن الحكومة العراقيّة، بل عن قوّات الحشد الشعبي التي تملك حرّية في التحرّك أكبر بكثير. والحال أنّ قادة الحشد الشعبي، خصوصاً منظمة «بدر» و «عصائب أهل الحق»، تحدّثوا علناً عن استعمال القوّة، وقد صرّح عضو في ائتلاف دولة القانون (الذي يرأسه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والمتآلف مع الحشد الشعبي) أنّ «ما يؤخذ بالقوة يمكن أن يستعاد بالقوة». ومن المعروف أنّ قوات الحشد الشعبي تصادمت مراراً مع البيشمركة: في الطوز منذ سنة 2016، وفي محافظة ديالى تكراراً، وكذلك في أجزاء من كركوك. ومع اقتراب الاستفتاء، تشير التوقّعات إلى أنّ نطاق الاشتباكات سيتّسع، وسيتّخذ طابعاً دامياً أكبر، وتتشرّد الشعوب مجدّداً، وتُهدَم القرى باسم مفهومين متضاربين للوطنيّة. وعلى رغم قوة البيشمركة، سيكتشفون أنّ قوات الحشد الشعبي قوية هي أيضاً، مع الدعم الذي توفره لها إيران، وسيكون من الصعب على الحكومة في بغداد كبح جماحها سياسيّاً وعمليّاً، فيبقى رئيس الوزراء حيدر العبادي الطرف الوحيد المكبّل اليدين، ولا يسعه إلاّ أن ينظر إلى مجرى الأحداث بخيارات متضائلة.
يكاد الصراع يكون مؤكَّداً، وبغضّ النظر عما إذا كان سيحقّق أي نتيجة، ستنتصر قوات الحشد الشعبي بنظر معظم العراقيين، باعتبارها تدافع عن وحدة أراضي وطنهم مهما كان الثمن. وسيُنظر إلى صراعها دفاعاً عن وحدة العراق على أنه نجاح أكبر حتى من نجاحاته السابقة ضد «داعش». وسيكون لهم المجد والنصر. ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية في نيسان (إبريل) المقبل، ستتيح التداعيات السياسية لكفاح الحشد الشعبي حفاظاً على العراق زخماً انتخابياً يصعب على أيّ كان منافسته أو إيقافه، فيكون كلّ من يقف في طريقه خائناً أو جباناً.
من سيفوز ومن سيخسر وسط هذه الديناميكيّة السياسيّة؟ من الواضح أنّ الحشد الشعبي وحلفاءه السياسيّين في العراق والمنطقة سيحقّقون نصراً كبيراً، في حين يتكبّد العبادي خسارة، ويكون الأكراد هم أيضاً خاسرين. وإن أراد الأكراد الاستعانة بالاستفتاء كأداة للتفاوض مع بغداد على الاستقلال وتحديد معالِم دولتهم الجديدة، فسيكون عليهم، في هذا المشهد السياسي الجديد، التفاوض مع قادة الحشد الشعبي، وليس مع العبادي الأكثر واقعيّةً وروية. والحال أنّ الأكراد أيضاً سيندفعون بتأثير من قادتهم الأكثر تشدداً. ومن الجانبين، سيجد أي طرف يحاول التفاوض بصورة منطقية أنّه خسر نفوذه، باعتباره جباناً لا يملك حساً وطنياً كافياً. وفي حرب الإرادات التي ستلي ذلك، لن تؤدي المفاوضات إلى حلول مجديه وقد يتفاقم الصراع.
لعل هذه الآفاق غير الواعدة، والأمل بالانتقال إلى بيئة أكثر هدوءاً لبدء المفاوضات بعد الانتخابات، هو ما دفع بالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأمم المتحدة إلى طلب تأجيل الاستفتاء. ومع رفض اقتراح الغرب بالتأجيل، قد يكون الأكراد أكبر المتضرّرين في نهاية المطاف. * باحثة عراقية. |