هذا المقال غير مألوف بمعيار وحيد هو أن كاتبه عربي (باحث مصري مقيم في أميركا). لكن بالمعايير الأخرى يمكن العثور على مثله، الإشادة بالحركة الصهيونية، في وسائل غربية وطبعاً إسرائيلية كثيرة. الفكرة المهمة والخطرة فيه هو أن نجاح الحركة الصهيونية ارتبط بفهم مؤسِّسيها العميق لحقائق العالم المعاصر أكثر من العرب. وهذا صحيح ولو كانت كلفته علينا كعرب ظلما إنسانياً ونتائج سياسية عالية جدا بل باهظة لأنها لم تولِّد مأساة من أكبر مآسي العصر فحسب هي اقتلاع الشعب الفلسطيني بمعظمه من أرضه بل ضربت التطور الطبيعي لكل مشاريع الاستقلال والتحديث والديموقراطية في العالم العربي. صار العالم العربي يُنتج أسوأ ما لديه بعد تأسيس إسرائيل. قبلها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كان يُنتج أفضل ما لديه. عام 1948 هو العام المفصلي في تاريخنا الذي "نَعَفَهُ" أو بعثَره تأسيس إسرائيل ولا يزال. 1948 وليس أكبر نتائجه 1967. غير أن الوجه المهم الآخر لهذا المقال فكريا وسياسيا أنه يُظهر وهو يمتدح الحركة الصهيونية أن المأساة الفعلية لليهود هي أوروبية وبنت التاريخ الأوروبي الذي حوّل المظلوم إلى ظالم للعرب. لأنه مقال استفزازي تعيد صفحة "القضايا" نشره اليوم نقلا عن موقع "الحرة" على الانترنت ولأنه علينا أن نطّلع على ما لا نحب وليس فقط على ما نحب. والمعترض على هذا التقديم والنشر نرجو أن يتصل بـ"قضايا النهار". هنا نصه:
مرّت في الأسبوع الأول من هذا الشهر أيلول ذكرى انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بمدينة بازل بسويسرا في عام 1897. البداية لم تكن مبهرة: 208 أعضاء يمثلون مجموعات يهودية مختلفة من أقاصي الأرض لبوا دعوة ثيودور هرتزل. اضطر المنظمون لنقل مكان انعقاد المؤتمر من ميونخ إلى بازل نتيجة الرفض الشديد من قبل قادة يهود المدينة. الفكرة الصهيونية نفسها كانت مرفوضة من قبل القادة الدينيين لليهود الأرثوذكس والإصلاحيين. طرفا النقيض في الساحة الدينية اليهودية لم يرحبا بالفكرة.
في مذكراته اليومية كتب هرتزل بعد انتهاء المؤتمر: "في بازل أسست الدولة اليهودية. لو قلت ذلك اليوم سأقابل بسخرية عالمية. ربما بعد خمس سنين، بالتأكيد بعد خمسين، سيدرك الجميع ذلك".
بعد خمسين سنة من قوله هذا وافقت الأمم المتحدة على قرار تقسيم أرض الانتداب البريطاني في فلسطين. في أقل من عام بعدها أعلنت الدولة.
في نجاح المشروع الصهيوني دروس عدة.
أدرك المؤسسون للحركة الصهيونية مبكراً أزمة الحداثة. حررت الحداثة البشرية من قيود العصور الوسطى، وفتحت المجال للإنسان ليبدع وينطلق، قفزت بالبشرية قفزات في شتى المجالات العلمية. لكن الحداثة أتت بأزمتها المزمنة. مكيافيلي أبو الحداثة رفض فلسفة ما قبل الحداثة في بحثها عن الحقيقة المطلقة والحياه الأخلاقية. صار الإنسان هو سيد هذا الكون. حررت الحداثة الإنسان من التقاليد لكنها فشلت في تقديم بديل. عملية التحديث أدت إلى اقتلاع البشر من المجتمعات الريفية مدمرة شبكات الضمان الإنساني. عملية التحديث من التصنيع، الهجرة إلى المدينة، والتعليم الواسع زادت من الشعور بالوحشة. نشأت الأيدلوجيات التوليتارية لتملأ الفراغ: الفاشية، الشيوعية، ومعاداه السامية. ليست هذه مشاكل جانبية، الأيدلوجيات التوليتارية هي نتاج أكيد للحداثة.
المشروع التنويري لم يكن أفضل حالاً. ظن اليهود على مدى قرن من الزمن أن وعود الثورة الفرنسية بالعدل، والإخاء، والمساواة قابلة للتحقق. ظنوا أن بإمكان اليهودي الاندماج في المجتمعات التي يعيش فيها. المفكر اليهودي موسى هيس أدرك المشكلة مبكراً. كتب في عام 1862: "بسبب كل الكراهية المحيطة به، اليهودي الألماني يصمم على التخلص من كل علامات يهوديته وينفي عرقه. ولكن حتى تحوله إلى دين آخر لا يمكن أن يخلص اليهودي من الضغط الهائل لمعاداة السامية الألمانية".
هرتزل نفسه كان أسيراً لهذا الحلم قبل 1894. محاكمة دريفوس كانت بمثابة صدمة. سوف يكتب بعدها: "فرنسا معقل التحرر، والتقدم، والاشتراكية العالمية يمكن أن تتعثر في عاصفة من معاداة السامية حيث يهتف الحشد الباريسي الموت لليهود. الاندماج لن يحل المشكلة لأن العالم غير اليهودي لن يسمح لهم". أفران الغاز في الهولوكوست سوف تؤكد صواب التحليل.
وضعت الحركة الصهيونية لنفسها هدفا واضحاً منذ نشأتها: إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين. لكنها لم تركن إلى هدف بعيد المنال من دون توفير الوسائل اللازمة لتحقيقه. الكثير من الحركات السياسية الأخرى فشلت في تحقيق الهدف النهائي لعدم وجود أي خطة تطبيقية لتحقيقه. في مؤتمر بازل حددت الحركة الصهيونية أربعة أهداف ثانوية لتحقيق الحلم:
أولاً، "دعم استيطان المزارعين، الصناع، والتجار اليهود في فلسطين". الحلم لا يمكن تحقيقه من قبل الغير.
في كتابه الدولة اليهودية 1896، يكتب هرتزل: "الأمر يعتمد على اليهود أنفسهم إن كانت هذه الوثيقة ستظل في الوقت الحاضر مجرد رومانسية سياسية"، هاجر اليهود إلى فلسطين، أقاموا مجتمعات جديدة، وضعوا أسس دولتهم.
ثانياً "تنظيم الوجود اليهودي خارج فلسطين في مجموعات ومنظمات". المشروع سيقام في فلسطين لكن من دون التنظيم الداخلي في الدول الأوروبية سيظل حلماً بعيد المجال. الكثير من الشعوب والحركات السياسية كانت لديها طموحات مماثلة أو حتى أوقع في التحقق. الفرق هاهنا في التنظيم. مشروع من دون قيادة هو مشروع غير قابل للتحقق. مشروع من قادة فقط هو مجرد أحلام مثقفين.
ثالثاً "تقوية الشعور والوعي اليهودي". لم تخترع الحركة الصهيونية فكرة رجوع اليهود إلى أرض آبائهم. على مدى أكثر من ألفي عام ظل اليهود يحلمون بهذه العودة. "العام القادم في أورشليم،" كانت هذه الجملة تتكرر كل عام على لسان كل يهودي في عيد الغفران. هاجر على مدى القرون عشرات الآلاف من اليهود إلى فلسطين. أدرك هرتزل قوة هذه الفكرة، كتب "الفكرة التي قمت بتطويرها في هذا الكتيب هي فكرة قديمة. إنها استعادة الدولة اليهودية". بعكس الحركة الصهيونية قامت حركة قومية أخرى في المنطقة بمحاولة خلق هوية غير حقيقية و فرضها على المجتمعات. دفعت شعوب المنطقة الثمن غالياً.
ركز هرتزل مجهوداته على الجانب السياسي. غيره قام بالاهتمام بالجوانب الثقافية. أهاد هام رفض فكرة دولة لليهود، أرادها دولة يهودية. يجب خلق إنسان يهودي جديد. اليهود في الشتات فقدوا هويتهم، وبدون إعادة هذه الهوية فإن مصير الدولة الموعودة هو الفشل. ضمن الـ208 الذين حضروا المؤتمر الأول كانت 17 امرأة. في المؤتمر الثاني في 1898 سوف تحصل المرأة اليهودية على حق التصويت. من دون المرأة اليهودية كشريك مساو للرجل اليهودي لا يمكن تحقيق المشروع.
رابعاً "البحث عن الدعم الحكومي الدولي اللازم". فالمشروع لا يمكن صنعه في فراغ. أي فكرة أو أيدلوجية محكومة بالواقع حولها. سوف يزور هرتزل إسطنبول بحثا عن قبول عثماني، سيضع آماله على عتبة ألمانيا القيصرية. حاييم وايزمان سينجح في الحصول على الدعم البريطاني من خلال وعد بلفور. الدولة الوليدة سوف تحصل على الاعتراف الأميركي والسوفياتي في لحظتها الأولى.
بعيداً عن نظريات المؤامرة المسيطرة على العقل الجمعي العربي، الحركة الصهيونية لم تجد أرضاً ممهدة أمامها. لم يكن اليهود في موقع يسمح لهم بتحقيق حلمهم. كان يهود شرق أوروبا عرضة لهجمات بربرية دائمة حتى أوائل القرن العشرين. وواجه يهود غرب أوروبا الكراهية. حتى في العالم الجديد لاحقتهم معاداة السامية.
الدولة الوليدة واجهت خطر الإبادة منذ يومها الأول. نجاح الحركة الصهيونية في ما فشلت فيه غيرها لم يكن صدفة. نجاح الحركة الصهيونية يحمل دروساً ظلت غائبة عن الشعوب المتحدثة بالعربية.
¶ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (إم.بي.إن) أي قناة "الحرة". |