تمت المصادقة خلال الأسبوع الحالي على تركيبة الحكومة الثانية لرئيس الوزراء يوسف الشاهد وهي الحكومة العاشرة منذ الثورة، كما أصبح متأكداً أنّ الانتخابات المحلية المقرّرة لنهاية العام الحالي ستتأجل إلى شهر آذار (مارس) من العام المقبل، استجابة لطلب عدد من الأحزاب التي ترى أنها غير مستعدة لخوضها في موعدها المعلن سابقاً. وبصرف النظر عن التفاصيل والأسماء، فإنّ المسار السياسي التونسي يتجه بوضوح نحو توسيع جبهة الأحزاب الحاكمة أو المساندة الحكومة، استعداداً للإقدام على قرارات في الميدان الاقتصادي أصبح مألوفاً في الخطاب السياسي التونسي وصفها بـ «الموجعة»، وهي بالضرورة قرارات غير شعبية لكنها ضرورية، وفق القائمين على السلطة، لإنقاذ الوضع الاقتصادي الصعب. هذه الإجراءات تصنف لدى بعض المحللين الاقتصاديين في خانة «التعديل الهيكلي»، وإن كانت السلطات الرسمية حريصة على التأكيد أنها اتخذت بقرار سيادي وبصرف النظر عن صندوق النقد الدولي، لكن الواقع أنّ هذه المؤسسة المالية الدولية أصبح لها دور مهم بحكم تقديمها قروضاً لا يمكن الاستغناء عنها.
رئيس الوزراء لم يكتف بسدّ الشواغر التي حصلت في حكومته السابقة وإنما قام بتغييرات مهمة شملت وزارات عدة منها الدفاع والداخلية، لكن التوازن العام لم يتغيّر بما أنّ طرفي الحكم يظلان حزبي «النداء» (ليبرالي) و «النهضة» (إسلامي)، على رغم التصريحات غير المسبوقة التي صدرت عن رئيس الجمهورية في المدّة الأخيرة في نقد تجربة تحالفه مع «النهضة» والتشكيك في نجاحها. بيد أنه لم يفت المراقبين أنّ الحكومة الجديدة أبعدت «النهضة» من كلّ المناصب ذات الطابع الأمني، ولم تنجح ضغوط الحركة في المحافظة على وزير الداخلية السابق الذي يعتبر مقبولاً لديها وإن لم يكن ذا علاقة قديمة معها. في المقابل، أصبح رصيد الحركة في الحكومة 8 وزراء وكتاب دولة وأصبحت بيدها غالبية الحقائب المتصلة بالاقتصاد، ومنها وزارة مستحدثة وظيفتها تنفيذ «الإصلاحات الكبرى» (المقصود الاقتصادية). والحقيقة أنّ السياسة الاقتصادية للبلاد لن تختلف سواء كان المسؤولون عن الاقتصاد من هذا الحزب أو ذاك، فقد بات واضحاً اليوم، مع تصاعد المديونية وتراجع قيمة العملة الوطنية واعتماد الدولة جزئياً في خلاص أجور موظفيها وأعوانها على قروض صندوق النقد الدولي، أنه لم يعد ممكناً تفادي برنامج التعديل الهيكلي. وكانت تونس قد نفذت برنامجاً من هذا القبيل عام 1986 وترتب عليه بصورة غير مباشرة وصول الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى الحكم كي يتوافر الاستقرار الضروري لتنفيذه. واليوم، تواجه تونس رهان توفير الاستقرار ولكن بطريقة التوافق السياسي وليس بالعصا الغليظة.
وفي 1986، كانت حركة «النهضة» (تدعى «الاتجاه الإسلامي» آنذاك) تستغلّ الغضب الشعبي المترتب على ذلك البرنامج لحشد الأنصار وتعزيز وسائل ضغطها في المجال السياسي، وهي اليوم تضطلع بالدور العكسي، إذ أصبح وزراؤها في مقدم المسؤولين عن تطبيق الإجراءات التي كانت الحركة تعتبرها قبل ثلاثة عقود من قبيل العمالة للغرب ومؤسساته. وسيفقدها ذلك بالضرورة تعاطف جزء من أنصارها، وربما كان هذا أحد أهداف منحها الحقائب الاقتصادية، لكنها قد تعزّر بذلك رصيدها أمام الغرب ومؤسساته، بإثبات توجهاتها الليبرالية وتخليها عن «الاشتراكية الإسلامية» التي اعتنقتها في السابق.
لعلّ السؤال الذي يطرح ذاته هو الآتي: هل حقاً أنها السياسة الوحيدة الممكنة؟ الواقع أن التكلفة الاقتصادية للثورة باهظة. فنسبة النمو قبلها كانت بمعدّل 5 في المئة سنوياً، وكانت تقارير كثيرة تشير إلى أنّ نقطة إلى نقطتين من النمو تهدر بسبب استشراء الفساد، كذلك كان توزيع الثروة الوطنية غير عادل، تستفيد منه فئات دون أخرى وجهات الشريط الساحلي أكثر من الجهات الداخلية.
كان يمكن نظرياً المحافظة على وتيرة التنمية وتعزيزها بمقاومة الفاسد، مع مراجعة طرق توزيع الثروة الوطنية بأكثر إنصاف. وكان يمكن الدولة أن تعتمد سياسة «كينيزية» تقوم على بعث المشاريع الكبرى في الجهات المحرومة لدفع التنمية واستيعاب الأعداد الضخمة من العاطلين من العمل. كما كان يمكن تونس، وهي العضو في منظمة التجارة العالمية، أن تطلب تجميد العمل بالتزاماتها لهذه المنظمة مدة محدودة، سنة أو سنتين، وتتخذ إجراءات صارمة للحدّ من التوريد والتحكم في الأسعار كي لا يفقد العمّال جزءاً من قدرتهم الشرائية ويتجهون إلى الإضرابات والاعتصامات مطالبين بترفيع الأجور.
لكنّ المناخ «الثورجي» والمزايدات السياسية والاجتماعية لم تسمح بذلك، ومسؤولية «النهضة» في ذلك محورية، سواء عندما دفعت باتجاه تشكيل المجلس التأسيسي بدل اللجنة التي شكلت سابقاً لمراجعة الدستور، أو عندما تولّت الحكم ولم تحدّد سياسة اقتصادية واضحة للبلاد. فكأنه يطلب منها اليوم إصلاح ما أفسدته في السابق، لكن عملياً، وبصرف النظر عن الماضي، يصعب اليوم تصوّر سياسة أخرى غير تلك التي تقوم على التقشف ومزيد تكبيل الطبقة الوسطى بالأداءات وغلق فرص الانتداب أمام الشباب. فالاقتصاد لا تعنيه الشعارات الثورية ولا حتى النجاحات السياسية. ففي الوضع الحالي، أصبح بلوغ نسبة نمو نقطتين ونصف من المئة أمنية عزيزة، وفقدت العملة الوطنية ثلثي قيمتها، وارتفع المديونية من 40 في المئة إلى 70 في المئة، وما زالت معدلات البطالة مفزعة، ولم يتراجع الحيف الاجتماعي والتفاوت بين الجهات.
كأن الوفاق الوطني يتسع بقدر ما ينتشر التسليم بأنّ الوقت قد تأخر لاعتماد سياسة غير السياسة الحالية التي لن يكون مرحباً بها من الطبقات الشعبية والوسطى. على السياسيين المتوافقين اليوم أن يبرهنوا حينئذ على أنّ وفاقهم في مصلحة الشعب وليس صيغة جديدة لاقتسام الكعكة التي ضمرت وهزلت، وأنه ليس وفاق طبقة سياسية مستفيدة من الأوضاع ضدّ الطبقات الشعبية المتضررة منها، وإلا أصبح الوفاق السياسي خطراً على الوفاق الاجتماعي العام. ويدرك الجميع أن عام 2018 سيكون حاسمة في الإجابة عن هذا السؤال وتحديد مسار المستقبل.
|