لا يجدر بدونالد ترامب تمزيق الاتفاق، مهما بلغت شوائبه. اتخذت كوريا الشمالية، في الأسابيع الأخيرة، خطوتَين أساسيتين نحو توسيع إمكاناتها كقوة نووية. أولاً، أطلقت بنجاح ما يمكن اعتباره صاروخاً بالستياً عابراً للقارات. وثانياً، اختبرت ما يبدو أنها قنبلة هيدروجينية.
من الغباء الافتراض أن بيونغ يانغ لم تتمكّن من رفع تحدّيات تقنية أخرى، على غرار تصغير الرؤوس الحربية بما يكفي لتركيبها على صواريخ بعيدة المدى أو التأكّد من قدرتها على تحمّل إعادة الدخول في جو الأرض.
يعني ذلك أنه بإمكان بيونغ يانغ الآن ضرب الجزء الأكبر من الولايات المتحدة القارية. كل الخيارات الأميركية - المفاوضات غير المرجّحة، والعقوبات غير الفاعلة، والهجمات العسكرية الخطرة - غير جاذبة، ولن يُغيّر أيٌّ منها على الأرجح ما يدور في ذهن كوريا الشمالية.
ليت أنّ منظومة عقوبات فاعلة أنتجت مفاوضات مجدية أقنعت كوريا الشمالية بتجميد برنامجها النووي قبل أن تبدأ بتصنيع أسلحة عابرة للقارات ونووية حرارية. تخيّلوا لو أنهم أقدموا، في فنتازيا طوباوية، على منع بيونغ يانغ من امتلاك النووي بالدرجة الأولى.
لكن هذا بالضبط ما يحدث فعلياً في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. في الوقت الراهن.
لم تسلك إيران بعد طريق النووي، ولا تزال بعيدة جداً من امتلاك القدرة على تصنيع صواريخ عابرة للقارات. لقد واجهت إيران منظومة عقوبات عالمية فاعلة وشاملة ردّت عليها بطريقة منطقية عبر تجميد برنامجها للتطوير النووي لمدة عشر سنوات بغية الانخراط من جديد في الاقتصاد العالمي والمجتمع الدولي.
إذا وافقت كوريا الشمالية على تجميد التطوير النووي في مقابل تعزيز التجارة والحوار الدولي معها، فسوف يكون اقتراحاً مغرياً للغاية. وإذا استطاع أحدهم أن يجعل بيونغ يانع تصبح غير نووية في السنوات العشر المقبلة، فسوف يُنصَّب بجدارة واحداً من أعظم العباقرة الديبلوماسيين في التاريخ.
يحمل التناقض عِبَراً بالغة الأهمية.
يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب مصمماً على إلحاق الضرر، إن لم يكن الإجهاز على الاتفاق النووي الإيراني في الأشهر المقبلة. لقد أعلن، في وقت سابق هذا الشهر، عن "توقّعه" بأن إدارته سوف ترفض الإفادة أمام الكونغرس بأن إيران تتقيّد بالتزاماتها بموجب الاتفاق الذي أبرمته مع القوى الدولية الكبرى.
وقد شرحت مندوبته لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، خلال مناسبة رسمية في واشنطن هذا الأسبوع [الأسبوع الماضي]، لماذا ينبغي على الإدارة الأميركية الامتناع عن تأكيد الامتثال الإيراني. كانت مزاعمها عن عدم الامتثال الإيراني في مجالَي إنتاج الماء الثقيل وتفتيش المواقع العسكرية، ملتبسة، ولا ترتبط بخروقات مادّية فعلية لبنود الاتفاق.
على نطاق أوسع، اشتكت هايلي من مجموعة كبيرة من السلوكيات الإيرانية السيئة التي تستحق فعلاً الاعتراض عليها، والتي قالت عنها إنها تشكّل انتهاكاً لـ"روح" الاتفاق. إلا أن الاتفاق لا يتضمن فقرة للتعريف عن "روحه"، وليس هناك من تفاهم متبادل بين القوى الدولية، فما بالكم إيران، حول ما يمكن أن يعنيه ذلك.
بيد أن إيران تتسبب بزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط عبر دعم أفرقاء غير دولتيين خطرين وميليشيات ومجموعات إرهابية خطرة في مختلف أنحاء المنطقة، واستغلال الفوضى ونشرها من أجل فرض نفوذها بالقوة في قلب العالم العربي. تستمر إيران أيضاً في تطوير إمكاناتها الصاروخية. ثمة حاجة بلا شك إلى إجراءات مضادّة جدّية. غير أن الاتفاق النووي صُمِّم تحديداً، وعن طريق الموافقة بالإجماع، للتعاطي مع مسألتَين محدودتَين: تجميد الأنشطة النووية الإيرانية في مقابل تخفيف العقوبات. لم تُبذَل جهود للتفاوض على أي شيء آخر، مثل السياسات الإيرانية التي تتسبّب بزعزعة الاستقرار في المنطقة، أو دعم إيران للمنظمات المتطرفة العنيفة، أو برنامجها الصاروخي.
في الواقع، تستمر واشنطن في فرض عقوبات ثنائية واسعة على إيران خارج نطاق الاتفاق، استناداً إلى تلك الارتكابات، وكلها تقع خارج نطاق الاتفاق.
يقول بعض حلفاء ترامب في واشنطن إنه في حال نفّذت الإدارة الأميركية تهديدها برفض التثبيت بأن إيران تتقيّد بالاتفاق، في الوقت الذي تؤكّد فيه جميع الأدلة والأفرقاء الآخرون أنها تلتزم فعلياً تطبيق بنوده، لن يعني ذلك القضاء على الاتفاق. فهم يشيرون إلى أنه سيكون على الكونغرس عندئذٍ أن يقرّر ماذا سيفعل بالعقوبات، وإلى أي حد سوف تستمر واشنطن بالوفاء بتعهداتها بموجب الاتفاق.
لكن في الواقع، حتى لو حاولت إدارة ترامب المراوغة بهذه الطريقة في تعاطيها مع المسألة، فسوف يتسبب ذلك بإضعاف شديد للاتفاق، ويفتح الباب أمام إيران، عاجلاً وليس آجلاً، من أجل استئناف الجزء الأكبر من أنشطتها النووية، إن لم يكن جميع تلك الأنشطة، من دون أي آفاق واقعية بإعادة العمل بمنظومة العقوبات الدولية الشاملة التي أرغمتها في المقام الأول على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
من الواضح أنه في حال أقدم ترامب على ذلك، سوف يُثير نفور المجتمع الدولي بأسره في مسألة أساسية تحتاج فيها الولايات المتحدة إلى دعم وتعاون عالميَّين، وسوف يخدم أهداف المتشددين في إيران الذين لن يصدّقوا حجم الحظ الجيد الذي يتمتعون به.
ليست هناك أي مؤشرات جدّية حول ما ستكون عليه الاستراتيجية الأميركية البديلة، أو حتى ما يمكن أن تكون عليه. لكن لدى مسح القارة الآسيوية، من طهران إلى بيونغ يانغ، من السهل أن نتخيّل يوماً تتوق فيه واشنطن لتكون تحديداً في الموقع الذي هي فيه الآن في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني المتوقّف حالياً، والذي يبدو أن ترامب يستعدّ لهجره.
باحث مقيم في معهد دول الخليج العربي في واشنطن |