طفت على السطح في الأسابيع الماضية جملة فضائح، هي عملياً غيض من فيض. لم تكن هذه الفضائح ابنة ساعتها، بل كان بعضها يتفاعل، منها حديثاً ومنها قبل سنوات. أول الفضائح ما يتصل بالكهرباء وصفقة البواخر. تبدو الكهرباء وكأنها «الدجاجة التي تبيض ذهباً» بالنسبة الى كل من تولى حقيبتها. فعلى رغم الوعود بكهرباء دائمة، فإن المواطن لا يرى سوى العتمة، على رغم أن الأرقام الرسمية التي تقدمها الحكومة عن دعم الكهرباء، بل عن الهدر في هذا القطاع، تصل إلى 30 بليون دولار خلال العقود الثلاثة الماضية. انكشفت فضيحة التلزيمات الأخيرة عندما تبيّن أن دفتر الشروط الموضوع من وزير «التيار الوطني الحر» ينطبق على شركة واحدة، فاحت منها مسبقاً رائحة السمسرة الضخمة لبعض أهل الحكم.
الفضيحة الثانية، التي سرعان ما انطفأ الحديث عنها تلك المتعلقة برشاوى الدخول إلى المدرسة الحربية. كان مذهلاً سماع ما يدفعه الطالب من أرقام مالية، تراوحت بين 60 ألف دولار ومئة ألف دولار. يعرف القاصي والداني منذ زمن بعيد أن من المستحيل الدخول إلى المدرسة الحربية من دون دفع رشاوى. جرت لفلفة الموضوع وطمسه بعد أن تبيّن أن رؤوساً كبيرة في المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية متورطة في هذه الفضيحة.
فضيحة ثالثة تنمّ عن استهتار وضرب لمؤسسات الدولة تتصل بإقالة رئيس مجلس شورى الدولة من منصبه. يشكل مجلس الشورى الرقابة الفعلية على أعمال المسؤولين في الدولة ووزرائها وإداراتها، وله صلاحية إيقاف ما يراه من مخالفات ارتكبها الوزراء. من المعروف أن مجلس شورى الدولة نقض عدداً من القرارات التي اتخذها وزراء في الحكم الحالي، من صفقة الكهرباء إلى مستشفى البوار إلى وزارة الزراعة... وهي مخالفات طاولت معظم الكتل السياسية الحاكمة. بدم بارد، ألغى مجلس الوزراء تعيين القاضي صادر الذي «أوجع رأس الوزراء والسياسيين» كما قال لأنه سعى إلى تطبيق القانون ومنع المخالفات. في عهد أمين الجميل في ثمانينات القرن الماضي، جرى التصرف ذاته مع رئيس مجلس الشورى، الذي رفض تغطية مخالفات الحكم. تكمن الفضيحة الكبرى في ما يصيب القضاء إجمالاً، سواء من حيث إفقاده لاستقلاليته وإخضاعه للسلطة السياسية، أو عبر جعل القضاة ملحقين بقادة الطوائف حفاظاً على سلطتهم، أو بالسمعة السيئة التي تطاول عدداً واسعاً من القضاة المنغمسين في الفساد والرشوة.
فضيحة رابعة، قديمة - جديدة، تتعلق بملف الدواء، التي كشف عنها مؤخراً من خلال إحدى الموظفات في وزارة الصحة عبر استبدالها أدوية السرطان وبيعها وإعطاء المريض أدوية لا صلة لها بمرضه. إذا كان الإعلام أعطى حجماً كبيراً لممارسات هذه الموظفة، إلا أن الموضوع الحقيقي يطاول الرؤوس الكبيرة في الوزارة من موظفين، كما يطاول الوزراء الذين تولوا هذه الوزارة. رائحة الصفقات والفساد في هذه الوزارة لا حدود لانتشارها، وهي تظهر كم أن صحة المواطن اللبناني تتحكم بها مافيات الدواء وسماسرته.
على رغم التقاطع بين الفضائح والفساد، لا بد من الإشارة إلى الرقم الذي ورد في تقرير البنك الدولي حول لبنان، والذي يشير إلى أن كلفة الفساد في لبنان تصل إلى حوالى عشرة بلايين دولار سنوياً. والفساد يتضمن الصفقات والتهريب من الجمارك والتهرب الضريبي وفضائح إدارات الدولة، خصوصاً منها في الدوائر المالية والعقارية. هل يمكن أن نتخيل أن ديون الوزراء والنواب من عدم تسديد فواتير الهاتف والكهرباء تصل إلى أكثر من ألف بليون ليرة، وهي الفئة المولجة بالتشريع وحماية المال العام؟
أطلق العهد شعار محاربة الفساد وتحقيق الإصلاح، لكن العكس ما نراه في التطبيق. فهذا الشعار تجري ترجمته اليوم في تشديد القبضة الأمنية والسعي إلى إسكات المعارضين، والتغطية على الفاسدين والمفسدين. من أجل ذلك، يتجه الحكم الحالي نحو بناء ديكتاتورية عسكرية، حالماً باستنساخ التجربة الشهابية في ستينات القرن الماضي. يجري العمل على إنشاء حكم عسكري صافٍ، في ظروف مختلفة كلياً عن زمن الشهابية، التي عرف عهدها إصلاحات فعلية وسياسة إنمائية مكّنت من تأمين القاعدة المادية والأيديولوجية للحكم العسكري. هذا إضافة الى المناخ الإقليمي المساعد على مثل هذه الخطوة آنذاك. وهي شروط يفتقدها الحكم الحالي، في أشخاصه وفساد القائمين عليه وغياب العالم العربي المساعد. * كاتب لبناني. |