بتصديق الرئيس عبدالفتاح السيسي على القانون رقم 198 لسنة 2017، المعني بإنشاء «الهيئة الوطنية للانتخابات»، ثم شروع مجالس الهيئات القضائية في ترشيح ممثليها لعضوية مجلس إدارة تلك الهيئة التي تضم عشرة قضاة، تكون مصر قد دشنت رحلة الاستحقاق الرئاسي الذي سينطلق رسمياً في شباط (فبراير) المقبل، على أن تجرى عملية الاقتراع في حزيران (يونيو) المقبل. وتتوافق هذه الإجراءات مع المادة 140 من الدستور، وتنص على أن تبدأ عملية انتخاب رئيس الجمهورية قبل انتهاء مدة الرئاسة في السادس من حزيران (يونيو) المقبل، بمئة وعشرين يوماً على الأقل، بينما يتم إعلان النتيجة قبل نهاية هذه المدة بثلاثين يوماً على الأقل.
وفي هذا السياق، هناك حزمة من الدلالات التي يطويها ذلك الاستحقاق المرتقب، من أبرزها أنه يكتسي أهميــــة بالغة، لكونــه يؤشر إلى انتقال مصــــر من مرحلة الشرعية الثورية وشرعية إنقاذ البلاد من السقوط في براثن الفوضى بعد ثورتين، إلى حقبة الشرعية الدستورية تحت مظلة دولة القانون والمؤسسات. ومن ثم، يغدو الحكم على نجاعة التجربة السياسية المصرية الراهنة وصدقية التوجه الديموقراطي المفترض، مرتهناً بمدى تنافسية تلك الانتخابات ونزاهتها، علاوة على الطريقة التي سيتعامل بها المصريون، حكومة وشعباً، مع مخرجاتها.
ثمة قلق وغموض واضحان يلفان ذلك السباق الرئاسي المنتظر مع تأخر أي إجراءات عملية تشي ببدء فعالياته، فلم يكن حلول موعد انطلاقه كفيلاً بإماطة اللثام عن أسماء الراغبين في خوض الماراثون الرئاسي، كما لا توجد تحركات على الأرض، في ما يخص البرامج أو الحملات الانتخابية الرئاسية، مِن الشخصيات التي سبق أن ألمحت إلى نيتها الترشح للرئاسة. فبينما لم يؤكد الرئيس السيسي ترشحه لولاية رئاسية ثانية، مكتفياً بإحالة الأمر على الرغبة والطلب الشعبيين، ما برحت شخصيات، سبق لها التلويح بالترشح، مستسلمة للتيه في فلك التردد والارتباك.
وشأنها شأن سابقاتها، تسلط الانتخابات الرئاسية المقبلة الضوء مـجدداً على محنة الوسائط السياسية المصرية. إذ لا تزال 106 أحزاب سياسية عاجزة، حتى الآن على الأقل، عن تقديم مرشح رئاسي قادر على المنافسة. فيما هرعت قيادات نحو عشرين حزباً سياسياً صغيراً، وكذلك نواب في البرلمان، لتدشين حملة جماهيرية بعنوان «معك من أجل مصر»؛ بغية دعم الرئيس السيسي، إذا ترشح لولاية ثانية. وهو الأمر الذي من شأنه أن يضع علامات استفهام بشأن دور الفاعلين السياسيين المصريين، فضلاً عن نجاعة التجربة السياسية المصرية التي ناهز عمرها 150 عاماً.
وهكذا نجد أنه بدلاً مِن الاهتمام بكيفية إجراء انتخابات نزيهة تعزز جهود التحول الديموقراطي المستعصي، سقط الجميع في براثن البحث العبثي عن مرشح منافس للرئيس السيسي، عساه ينأى بالاستحقاق الرئاسي عن كوميديا الاستفتاءات الشعبية ويدنو به، ولو ظاهرياً، من تراجيديا الانتخابات الرئاسية التنافسية.
يفتقد المصريون الخبرات العميقة والجادة في ما يخص الانتخابات الرئاسية التنافسية، ففي عام 2005، كانت البلاد على موعد مع أول انتخابات رئاسية، أشيع وقتها أنها ستتسم بالتنافسية والنزاهة، وعلى رغم أنها كانت المرة الأولى التي يعاصر المصريون اقتراعاً رئاسياً بين أكثر من مرشح، إلا أنه افتقد أبسط قواعد الحيدة والنزاهة حتى غدا أقرب إلى المسرحية الهزلية. وفي العام 2012، وبعد عام على الحراك الشعبي الجارف، أجريت انتخابات رئاسية كانت الأقرب إلى التنافسية والنزاهة، بغض النظر عن نتائجها، غير أن اضطرار المصريين في العام 2013 إلى تصحيح مسار التجربة عبر إجراءات صعبة، أوصل البلاد والعباد إلى تجربة ثالثة في العام التالي مباشرة، وسط ظروف بالغة الخصوصية.
لم يحسم إعمال الدستور بإنشاء «الهيئة الوطنية للانتخابات»، كبديل من الإشراف القضائي على عمليات الاقتراع، الجدل بشأن الضمانات الخاصة بحياد العملية الانتخابية في مراحلها كافة، فبينما أكد القانون والدستور اختصاص تلك الهيئة دون غيرها بإدارة الاستفتاءات والانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية، بدءاً من إعداد قاعدة بيانات الناخبين وتحديثها، حتى إعلان النتائج، باستقلال وحياد، فنياً ومالياً وإدارياً، على النحو الذي ينظمه القانون ومِن دون التدخل في أعمال الهيئة أو اختصاصاتها، إلا أن خبرات المصريين المريرة مع إدارة الانتخابات، بشتى صورها طيلة عقود، تمخضت عن فجوة ثقة شاسعة.
وبينما ينشغل مصريون كثر بكيفية إجراء انتخابات رئاسية تنافسية نزيهة تؤشر لانتقال البلد من الثورة إلى الدولة، وتعطي دفعة لمساعي التحول الديموقراطي القلق والبطيء في البلاد، لا تتورع بعض الأصوات عن المناداة باستبقاء الرئيس من دون انتخابات، أو إرجاء الانتخابات إلى أجل غير مسمى، أو تعديل الدستور بغية إطالة المدى الزمني للفترة الرئاسية، على رغم أن المواد المعنية بهذا الأمر تتطلب دقة وحذراً شديدين عند الحديث عن تعديلها. إذ تنص المادة 226 من الدستور على أن لرئيس الجمهورية، أو لخُمس أعضاء مجلس النواب، طلب تعديل مادة، أو أكثر من مواد الدستور، لكنه لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقاً بالمزيد من الضمانات، فبالتزامن مع إلحاح رئيس البرلمان في المطالبة بتعديل الدستور، اقترح عدد من نواب «ائتلاف دعم مصر»، صاحب الأغلبية في البرلمان والأقرب إلى الموالاة، إدخال تعديلات على الدستور الحالي، تسمح بتمديد فترة الرئاسة إلى ست سنوات بدلاً من أربع.
ويبرر هؤلاء مساعيهم بأن حظر التعديل بموجب المادة 226، يسري حال ارتباط التعديل بتمديد فترات الرئاسة وليس مدة الفترة الرئاسية، كما أن الموافقة الشعبية على التعديلات الدستورية تأتي فوق النصوص الدستورية الموضوعة، ذلك أن الأصل في الدساتير أنه يتم وضعها وتعديلها وفقاً للإرادة الشعبية. وهو ما يخول للبرلمان عرض الأمر على الاستفتاء وإن كان تفسير النص يأتي في مصلحة عدم الاقتراب من تلك المادة. ولا يكترث هؤلاء برد الفعل الشعبي حيال تمرير هكذا تعديل، إذ تسنى للبرلمان سن تشريعات وإقرار قوانين مصيرية لم يكن مرحباً بها شعبياً، لكنها مرَّت بسلام، أبرزها قانون الخدمة المدنية وضريبة القيمة المضافة، وقانون السلطة القضائية.
في المقابل، يتحسب الرافضون لهذا التوجه، للدلالات التي ينطوي عليها إدخال تعديل على الدساتير عموماً، كونها تتضمن إيحاءات بعدم الاستقرار السياسي، علاوة على انبعاث المخاوف من تكرار تجربة الرئيس الراحل أنور السادات في عام 1980، حينما مرَّر تعديلاً يسمح بتمديد فترة الرئاسة لأكثر من فترة بدلاً مِن فترتين رئاسيتين، ما سمح ببقاء خلفه حسني مبارك في الحكم لأكثر من ثلاثين عاماً؛ انتهت بخروجه المهين مِن السلطة. * كاتب مصري
|