منذ إعلان تحرير مدينة الموصل في شكلٍ كامل، عاد سُكان المدينة المُهجرون بغالبيتهم إلى تفقد منازلهم ومُمتلكاتهم، فأصابهم إحباط شديد. حتى الذين لم تُدمر بيوتهم وأحياؤهم، يعتبرون أن المدينة صارت بُحكم المُحطمة، في بُنيتها التحتية وخدماتها العامة وحياتها المدنية والأمنية والاجتماعية. وهم عبروا عن خشيتهم من عودة القلاقل للمدينة، بحُكم غياب رؤية سياسية واقتصادية واعدة لإعادة تنمية المدنية ومُحيطها المُحطم بشكل فعلي. تُشير تقديرات برنامج الأمم المُتحدة الإنمائي في العراق، وكذلك الصور المأخوذة من الأقمار الاصطناعية، إلى أن 15 منطقة/حيّاً سُكانياً من غرب الموصل، من أصل 54 منطقة، باتت مُدمرة بشكلٍ كامل، و23 منطقة مدمرة جزئياً، فيما 15 منطقة مُصابة بأضرار طفيفة. وقدرت ممثلة البرنامج في العراق ليزي غراند حاجة غرب المدينة لـ700 مليون دولار، حتى تتمكن من تقديم الخدمات العامة الضرورية، وأن تحافظ على استمرار السُكان الحاليين في العيش في المدينة. يُضاف إليها 132 مليون دولار لشرق المدينة الذي يبدو مُستقراً نسبياً، وأقل دماراً.
ثمة تراوح شديد في تقديرات الحاجات المالية اللازمة لإعادة إعمار المدينة. فأمين عام مجلس الوزراء العراقي أشار إلى أن المبلغ اللازم يُقدر بحوالى 50 بليون دولار. فالمدينة تحتاج إلى إعادة تأهيل وتشييد للبُنى التحتية في قِطاعات التعليم والصحة والنقل والأحياء المُدمرة. وحتى تعود المدينة لاستقبال مئات الآلاف من سُكانها المُهجرين، فإنها تحتاج إلى إعادة بناء 300 إلى 400 ألف وحدة سكنية جديدة، تعوض المنازل المُدمرة، وأن تؤمن خطوط إمدادٍ مالية ولوجيستية للدخول في هذه العملية الضخمة، وهو ما يتطلب استقراراً أمنياً وسياسياً بين السُكان المحليين والمُتصارعين على مُستقبلها، ورؤية من الحكومة المركزية حول ما يُمكن أن تكون عليه المدينة مُستقبلاً.
* * *
لا تملك الحكومة العراقية، ولا حتى القوى السياسية الرئيسية الحاكمة، مشروعاً واضحاً لإعادة إعمار المدينة. فوزارة التخطيط العراقية أشارت إلى أنها تعمل على خطة لإعادة إعمار كُل المناطق التي خضعت لتنظيم «داعش». وهي خطة تمتد لعشر سنوات 2018-2027، وتهدف وفق تصريحات الوزارة إلى إحداث تنمية بشرية واجتماعية واقتصادية في تلك المناطق، إضافة إلى إعادة تشغيل مؤسسات الدولة والبنية الخدمية الرئيسية. وقدرت الوزارة مستلزمات خطتها بنحو 35 بليون دولار.
صندوق إعمار المناطق المُتضررة أعلن أنه يملك خطة لإعادة تأهيل كامل مُحافظة نينوى (مدينة الموصل عاصمة المُحافظة). لكن الصندوق حين كشف عن خطته، أظهر تضخم المؤسسات البيروقراطية التي يُمكن أن تدير العملية، كذلك مدى تداخل السُلطات والجهات المُشرفة عليه وتضاربها. إذ تتطلب الخطة وكلاء من جميع الوزارات، وممثلين عن مجلس أمناء الصندوق ومحافظة نينوى والمجالس المحلية وأعضاء مجلس النواب والدوائر القطاعية. بغض النظر عن موضوعية الخطط التي تُقدمها الحكومة العراقية، إلا أنها تُعاني من معضلات رئيسة، اقتصادية ومالية وسياسية ومُجتمعية، ويُمكن لأي منها أن تُطيح كل مساعي إعادة الإعمار.
* * *
الدولة العراقية تُعاني من مُشكلة اقتصادية ومالية مُركبة، تتجاوز أي أزمة تقليدية عابرة، بل ثمة مشكلة تكوينية في الاقتصاد العراقي. فالاحتياط النقدي العراقي كان بحدود 80 بليون دولار قبل انخفاض أسعار النفط واحتلال «داعش» قُرابة ثُلث مساحة العراق، لكنه انخفض راهناً ليكون أقل من 45 بليون دولار.
الموازنة السنوية الحالية للحكومة العراقية تُقدر بـ80 بليون دولار، وقد تم رفعها إلى 83 بليون دولار، بعد الارتفاع النسبي لأسعار النفط. لكن ديون العراق تتراوح بين 60 و70 بليون دولار، جزء مهمٌ منها تراكمي ومرتبط بديون النِظام السابق، والقسم الأغلب قروض استدانتها الحكومات الأخيرة من المؤسسات الدولية والشركات النفطية. لقد غدا العراق دولة نفطية تماماً، يصدر يومياً أكثر من ثلاثة ملايين برميل، تُشكل عوائده قرابة 90 في المئة من الموازنة العامة للبلاد. ولا قطاعات اقتصادية حيوية ومُنتجة أخرى غير النفط. والعراق غارق في جيش من الموظفين البيروقراطيين الذين يُقدرون بأكثر من خمسة ملايين مُوظف، ويُعتبر من أكثر دول العالم فساداً.
في هذا السياق، تدرك الحكومة العراقية أنها لا تستطيع أن تؤمن الحاجات الضرورية لإعادة إعمار مدينة الموصل. والتقشف النسبي الذي يجب أن تُمارسه الحكومة لتغطية متطلبات عملية إعمار المدينة، ليس ضمن خيارات الحكومة. فهي تُدير حاجاتها بموازنات تشغيلية بالحد الأدنى، ولا تستطيع سحب المزيد من الأموال من شبكات الضمان الاجتماعية، حتى لا يهتز الاستقرار الداخلي.
يأمل العراق بالحصول على مساعدات مالية من المُجتمع الدولي، ويقدر صندوق النقد الدولي ما سيدفعه، إلى جانب مؤسسات مالية دولية أخرى، بقرابة 18 بليون دولار.
«صندوق تمويل الاستقرار الفوري» التابع لبرنامج الأمم المُتحدة، يُدير أكثر من ألف مشروعٍ في خمس وعشرين منطقة مُحررة من العراق، أغلبها في مدينة الموصل ومُحيطها. لكن جميع هذه المشاريع تُصنف كمشاريع تيسير يومي ليس أكثر.
وحصل الصندوق على منحٍ مالية من دول عدة، منها 1.8 مليون دولار من النرويج و33 مليون دولار من الدنمارك، ومثلها من ألمانيا، كذلك دفعت السويد 4 مليون دولار وكوريا الجنوبية مليون دولار. على أن ذلك يبقى هزيلاً قياساً بالحاجات.
* * *
سياسياً واجتماعياً، تبدو إعادة إعمار مدينة الموصل صعبة للغاية. فهي تُشكل تقاطعاً مُركباً لأغلب مشاكل العراق الداخلية، والإقليمية. فتداخل المدينة سُكانياً وجُغرافياً مع المناطق المُتنازع عليها بين إقليم كردستان والحكومة المركزية يشكل أهم المعيقات. الأوضاع بين الطرفين تتجه إلى مزيد من التعقيد، وإلى احتمال صدامات عسكرية. وسيعيد هذا الاحتمال أجواء الحرب إلى المدينة، وستعمل الحكومة المركزية على تأجيل أي مسعى لإعادة إعمار المدينة.
وليس ثمة إجماع بين ساسة المدينة ونُخبها على ما يجب أن تكون عليه المدينة مستقبلاً، وهم يتنازعون في ما بينهم للحصول على حصصٍ وحقوق في عملية إعادة البناء، ويُمكن لأي منهم أي يسعى لتعكير هذه العملية، فيما لو شعر بأنها ستكون لمصلحة الطرف الآخر تماماً.
|