يرتدي قرار إدارة ترامب، بسحب نحو 100 مليون دولار مساعدات لمصر وتعليق مبلغ آخر قدره 200 مليون دولار، أهمية خاصة لسببين: الأول، أن جُل هذه الأموال هي مساعدات عسكرية لم يحدث قبلاً أن تم شطبها، كما جرى في بعض الأحايين للمساعدة الاقتصادية. والسبب الثاني هو أن الإجراء رُبِطَ مباشرة بقضايا حقوق الإنسان، وهذه خطوة غير اعتيادية من قِبَل أي إدارة اميركية، خاصة الإدارة الراهنة.
لكن، ماذا بالضبط فعلت وزارة الخارجية الأميركية، وهي المُخوَّلة بتقديم المساعدات الخارجية حال قيام الكونغرس بتخصيص الأموال اللازمة لها؟ إنها أعادت برمجة (إقرأ: "أخذت" من مصر) 95,7 مليون دولار مساعدات، بما في ذلك 65,7 مليون دولار من المساعدات العسكرية و30 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية. وهذه الأموال كانت قابعة من دون انفاق منذ السنوات الأخيرة (وثمة غيرها أكثر بكثير، خاصة في قطاع المساعدات الاقتصادية)، ولذا قررت إدارة ترامب شطبها بغرض توجيه رسالة إلى القاهرة.
الخطوة التالية التي اتخذتها وزارة الخارجية هي التحفظ - ولكن على الرف الذي لا تصل إليه يد مصر - على مبلغ إضافي قدره 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية التي كان يمكن أن تعود بشكل بائن إلى الخزانة الأميركية قبل 30 أيلول/سبتمبر إذا لم يُتّخذ أي إجراء بشأنها. وهذا الرصيد (الذي أخضعه الكونغرس إلى شروط حقوق الإنسان) يشكّل 15 في المئة من الـ1,3 مليار دولار مساعدات عسكرية المُخصّصة لمصر في السنة المالية 2016.
والحال أن وزير الخارجية ريكس تيلرسون أقدم، بمعنى ما، على ما فعله سلفه جون كيري، أي أنه قال إن مصر لم تلبِ هذه الشروط، لكنه مع ذلك طرح هذه الأخيرة جانباً خدمة لمصالح "الأمن القومي". لكن تيلرسون، مع ذلك، وضع هذه الأموال على الرف، قائلاً إنه لايجب السماح لمصر باستخدامها إلى أن "نرى تقدماً نحو الديموقراطية"، كما قال ناطق باسم الخارجية.
لماذا اتّخذت وزارة الخارجية مثل هذا الإجراء، ولماذا الآن؟ الأرجح إن إجراءً وشيكاً من الكونغرس هو الذي أملى عليها هذه الخطوة. ذلك أن أعضاء بارزين في مجلس الشيوخ الأميركي، بمن فيهم العديد من الجمهوريين، بدأوا يشعرون بالقلق على نحو مُطّرد حيال مصر ويتبرّمون من الرئيس عبد الفتاح السيسي، كما بدا واضحاً وجليّاً خلال جلسة استماع (عقدتها لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ الأميركي التي تتخذ القرارات حول المساعدات الخارجية) كنتُ قد أدليت فيها بشهادتي في نيسان/إبريل الماضي. فالجرح المتقيّح المتعلّق بإدانة ناشطين في عدد من المنظمات غير الحكومية الأميركية في العام 2003؛ والقانون القاسي الجديد الذي قيّد وصفّد بحدة المجتمع المدني؛ والخروقات المتواصلة والكثيفة لحقوق الإنسان؛ وما ذُكِرَ عن استخدام العتاد الأميركي في عمليات القتل خارج سياق القانون في سيناء؛ كل ذلك كان من ضمن القضايا التي أدّت إلى تدهور العلاقات بين بعض الشيوخ البارزين وبين مصر. ولو أن الإدارة فشلت في مجابهة هذه القضايا، لكان الكونغرس سيسن تشريعات جديدة أقسى حيال المساعدات لمصر. ولذا، أسرعت الإدارة للإمساك بزمام المبادرة.
لم تُمِط وزارة الخارجية اللثام علناً عن مضمون "التقدم" المطلوب للإفراج عن مبلع الـ 195 مليون دولار، عدا القول أن الأمر يتعلّق بحقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية. والأرجح أن هذا التدبير كان مقصوداً وحصيفاً أيضا، إذ يُفترض أنه تم بالفعل نقل شروط محددة إلى الحكومة المصرية سرّاً، لكن يمكن للمرء أن يتكهّن بشأن طبيعتها، إذ يُرجَّح أنها تتضمّن ما له علاقة بتعديل أو إلغاء قانون المنظمات غير الحكومية. ثم أن تيلرسون كان واضحاً وصريحاً علناً حيال الحقيقة بأن إقرار السيسي للقانون، بعد أن اعتقد مسؤولو الإدارة أنهم تلقوا وعوداً بأن العكس سيحدث، أشعل خلافات ونزاعات عدة. هذا علاوة على أن إلغاء إدانة الناشطين في المنظمة غير الحكومية الأميركية، ووقف مضايقة مجموعات حقوق الإنسان المصرية، كانا أيضاً على قائمة المطالب الأميركية.
كل هذه المسائل كانت في الواقع محط اهتمام كبير في الكونغرس، وكذلك قضية الرقابة السليمة على الاستخدامات النهائية للمعدات الأميركية في سيناء. وأخيراً، ظهرت العلاقات العسكرية والتجارية المديدة بين مصر وكوريا الشمالية على رادارات التوترات بين الطرفين، حين كشف البيت الأبيض علناً في أوائل تموز/يوليو عن أن ترامب أثار هذه القضية في اتصال هاتفي مع السيسي. وهنا نأتي إلى سؤال مهم: هل سحب المساعدات يأتي خارج سياق سلوكيات إدارة ترامب مع مسائل حقوق الإنسان عالمياً، ومع مصر بالتحديد؟ نجيب بنعم ولا. إذ من غير المعتاد لأي إدارة أميركية، وهذا ينطبق حتى أكثر على إدارة ترامب، أن توبّخ وتعنّف نظاماً سلطوياً صديقاً لها لخرقه حقوق الإنسان وحريات المجتمع المدني. وفي هذا السياق، تبدو بيانات ترامب الصارخة وتصريحات تيلرسون الخافتة حول عدم الاهتمام بكيفية حكم الأمم الأخرى لنفسها، على طرفي نقيض مع هذا القرار. لكن، ومع ذلك، يتطابق هذا الإجراء مع مقاربات ترامب من نواحٍ أخرى: أي القيام بأشياء تختلف عن تلك التي كان يقوم بها الرئيس السابق باراك أوباما (الذي تبحّرت إدارته في الحديث عن تجاوزات حقوق الإنسان، لكنها امتنعت عن حجب المساعدات العسكرية)، حين طالبت بخطوات محددة في مقابل المساعدات الأميركية (تذكروا باكستان هنا)، كما أظهر هذه الإجراء أيضاً أن ترامب يقوم بمساومات أصعب من سلفه.
في ما يتعلّق بمصر على وجه الخصوص، ومنذ أن تقلّد ترامب منصبه، أبدى المراقبون كبير اهتمام بتعابير هذا الاخير المُشيدة بالسيسي، لكنهم لم يلتفتوا إلا بقدر ضئيل إلى واقع أن إدارته غير مُتحمسة البتة (هذا عدا الكونغرس) لتحويل مناسبة التقاط الصور التذكارية المعنوية إلى دعم مادي ملموس. لكن، حين زار السيسي واشنطن في نيسان/إبريل الماضي، كان من المستحيل تقريباً جعل الصحافيين ينتبهون إلى هذا الانقسام المثير والمشوّق، لأنهم كانوا مُستغرقين حتى الثمالة بسردية تخلّي ترامب عن حقوق الإنسان.
في حين أن مقاربة ترامب قد تكون مشوشة وغير متّسقة، إلا انه يبدو أيضاً أنها بمثابة جهود لقلب مقاربة أوباما على رأسها: بدلاً من النقد العلني مع ضغط حقيقي خفيف، تجري مواكبة عبارات الود العلنية بمطالب مُحددة. ومع ذلك، قد تمر أسابيع أو حتى شهور، قبل أن يتبيّن ما إذا كان أسلوب ترامب سيفعل فعله بشكل أفضل من ذي قبل.
باحثة أولى في برنامج كارنغي للشرق الأوسط
(كارنغي) |