أعلن رئيس النظام السوري أنه «تم إفشال المشروع الغربي» في سورية، كما لو أنه يذكّر بخطابه الأول (آذار - مارس 2011) الذي قال فيه أن نظامه يواجه «مؤامرة» خارجية وليس انتفاضة شعبية داخلية، وقد أمضى سبعة أعوام ونيّفاً في استدعاء المتدخّلين من إيرانيين وروس وميليشيات شتّى لمساعدته في تدمير المدن والبلدات لقتل السوريين واقتلاعهم من مواطنهم، وفي تقويض الاقتصاد وتمزيق النسيج الاجتماعي، كما في تصنيع الإرهاب ونشره، بغية القضاء على تلك «المؤامرة» أو «المشروع الغربي»، وفقاً للتسمية الجديدة الذي يفاخر الآن بأنه هزمه، بعدما كان حليفه الإيراني سبقه إلى إشهار ذلك. وعلى رغم أن الحليف الروسي لعب الدور الحاسم في تلك «الهزيمة» إلا أنه لم يذهب إلى الاستنتاجات ذاتها التي بلغها بشار الأسد، سواء بالنسبة إلى الحل السياسي الذي أغفله في خطابه الأخير كونه لم يؤمن به يوماً، أو بالنسبة إلى «الاتجاه شرقاً» فقط في تمويل مشروعات إعادة الإعمار، وغير ذلك من اشتراط قطع الدول ارتباطها بالإرهاب قبل السماح لها بإعادة فتح سفاراتها في دمشق.
لكن، ما هو «المشروع الغربي»؟ إذا كان وُجد أصلاً ولم تتضح معالمه في سياق الأزمة، فإن المعطيات المتراكمة باتت تسمح بالقول أن المرتكز الرئيسي لهذا «المشروع» كان «إبقاء الأسد في منصبه»، ولم تتغيّر الحجج المبكرة لتبريره منذ إحباط المحاولة الجدّية الأولى لإسقاط النظام منتصف 2012 حتى اليوم، وقد أحبطتها الولايات المتحدة فارضةً إرادتها على مجموعة «أصدقاء سورية». والحجج معروفة، من عدم وجود «بديل» جاهز إلى صعوبة التعامل مع تناقضات المكوّنات المتعددة الطائفة إلى الخشية من شيوع الفوضى وهيمنة الإسلاميين الى الخوف من استشراء الإرهاب... هذه الهواجس هي التي سهّلت أولاً تغاضي إدارة باراك أوباما عن التدخّل الإيراني لـ «حماية نظام الأسد» (تشجيعاً لطهران على الانخراط الجدّي في المفاوضات النووية)، كما سهّلت تالياً التعايش الأميركي السريع مع التدخّل الروسي لـ «إنقاذ نظام الأسد» والاكتفاء بصفة «الشريك» لروسيا في إدارة الأزمة، وقد استخدمت موسكو هذه الشراكة للحصول على غطاء من واشنطن لضرب المعارضة «المعتدلة»، وكذلك لاستدراج تنازلات أميركية في ما يتعلّق بـ «مصير الأسد».
استطاعت موسكو انتزاع معظم ما أرادته من إدارة أوباما، وفيما كانت هذه الأخيرة تصوّر للرأي العام أن الخلاف يتمحور على «مصير الأسد» كانت في الحقيقة تموّه الخلاف الأساسي على الملفّين الأوكراني والأطلسي، لأن روسيا لم تكن قلقة مما يجري في سورية، بل تستخدم أزمتها ورقة مساومة مع الأميركيين في الصفقة الأكثر شمولاً. وعلى رغم أن إدارة دونالد ترامب تجاوزت «الخط الأحمر» مرة واحدة بقصف مطار الشعيرات، إلا أن التفاهمات التي أنجزت سريعاً بعد تلك الضربة أفضت عملياً إلى تكريس تنازلات إدارة أوباما في ما يخصّ الأسد ونظامه. ولعل اتفاق الرئيسين الأميركي والروسي في شأن جنوب غربي سورية شكّل النقلة التالية لتلك التنازلات، وهو اتفاق عكس إصرار روسيا على وجود «الشريك» الأميركي أياً تكن الظروف. لذلك، يبدو كلام الأسد عن «المشروع الغربي» منفصلاً عن الواقع الذي يهيمن عليه الروس أو مجرّد حذلقة لغوية لاستثمار هذا الواقع. وفي أي حال كانت هذه المرّة الأولى التي يخاطب فيها الأسد سفراءه في الخارج لإبلاغهم بأن النظام بدأ يتعافى وأن عليهم أن يعملوا في ضوء ذلك، لكنه استغلّ الفرصة كالعادة في شكل ملتوٍ.
كان يُفترض أن يخاطب الأسد «المنتصر» السوريين جميعاً بـ «رؤيةٍ» ما لسورية في المرحلة المقبلة، بما أن الحديث الرائج حالياً أنه مستمر في السلطة أياً تكن صيغة الحل السياسي، لكنه لم يتوجّه إلى السوريين ربما لأنه غير متيقّن مما سيفعل به حليفاه، لذلك أعطى الأولوية لمعاقبة دول الغرب أولاً برفض أي تعاون أمني «إلا بغطاء سياسي ورسمي»، ثم بالتقليل من أهمية فتح السفارات التي «لا تغرينا» وكذلك بالتوعّد بحرمانها من أي حصة في إعادة الإعمار، معلّلاً ذلك بـ «أننا تعاطينا مع الغرب لأربعة عقود ولم يقدموا لنا أي فائدة ويريدون تبعيّة». الأرجح أن حليفيه يسخران من مسألة «التبعيّة» ولا يوافقانه على «الاتجاه شرقاً» لتمويل الإعمار، فموسكو كما طهران تحتاج إلى الغرب في مساوماتها لتعزيز مصالحها، ثم أن الأوساط القريبة من الأسد تجهد بعيداً من خطاباته لإقناع الدول الغربية بإعادة فتح سفاراتها، بل تتمنّى أي إشارة انفتاح أميركي مهما كانت بسيطة. عدا ذلك، لم يكن متوقّعاً أن يسأله أي من ديبلوماسيّيه عن توصيفه حال سورية مع حليفَيها، وأي مقدار من «التبعيّة» فيها، خصوصاً أنهما يحسبان على النظام كل ما ينفقانه دفاعاً عنه ويضغطان لنيل المكاسب والامتيازات، بالتالي يراكمان الديون السيادية على البلد.
قبل أيام من ذلك الخطاب كان النظام ارتكب جريمة كيماوية جديدة في جوبر (في إحدى مناطق «خفض التصعيد»)، وعلى رغم سقوط قتلى في هذه الواقعة لم يكن هناك أي رد فعل دولي. وقد جاء خطابه الانتصاري عشية الذكرى الرابعة لقصف معضمية الشام بالكيماوي، وقد غدت أيضاً الذكرى السوداء لتخاذل إدارة أوباما ومسلسل التراجعات التي أدّت عملياً إلى «شرعنة» استخدام السلاح المحرّم دولياً على نحو روتيني. كان ذلك أحد أكبر انتصارات روسيا على القانون الدولي الذي تدّعي العمل بموجبه، ومع أنها تسعى فعلاً إلى حل سياسي إلا أنها تريده بشروطها التي تبدأ، خصوصاً بتزوير الواقع السوري من خلال فرض الصيغة التي تناسبها على تركيبة الوفد المفاوض باسم المعارضة، بحيث يصبح دمية في يدها، واستطراداً في يد الأسد. وحين تتحدث العواصم عن «بقاء الأسد» كمعطى سياسي ناجز فلا بد أن يعني ذلك أن دول «المشروع الغربي» حسمت أمرها بإعفاء النظام من فظائعه الموثّقة، وهذه في حدّ ذاتها جريمة لم تبلور تلك الدول بعد الإخراج المناسب لها. بأي ذريعة سيُترك ليُفلت من أي عدالة؟
استخرج الأسد ثانية فكرته النازية عن «المجتمع الأكثر انسجاماً»، مجدّداً إصراره على نجاعة سياسة الإبادة التي أتبعها نظامه مع الإيرانيين ثم الروس، مؤكّداً عدم اكتراثه بملايين اللاجئين وعدم التفكير في مصيرهم، فبعدما اقتلعوا وهجّروا يريد تكريس التخلّص منهم. ولعل بقاءهم حيث هم أولى عنده من عودتهم، وهناك في أوساط النظام من يقول أن المجتمع الدولي مجبر على إيوائهم وإطعامهم في حين أن البلد لم يعد قادراً على استيعابهم وتوفير الخدمات لهم. ذاك أن إعادة الإعمار إذا تيسر تمويلها يريد النظام وحليفه الروسي توجيهها نحو المدن المدمّرة، أما الممولون المحتملون، خصوصاً الأوروبيين، فيريدون تشجيع اللاجئين على العودة بالتركيز على البنية التحتية والخدمات الأساسية وعلى تنمية سريعة وحيوية للأرياف.
لدى النظام ورئيسه ثقة في أن «لعبة الإرهاب» نجحت في تأمين استمراريتهما، ليس الآن بعدما غيّر الروس الخريطة الميدانية بل منذ إغفال القرار 2254، إذ كانا متأكدَين بأنه سيُنفَّذ بعناية الروس ووفقاً لتفسيرهم، أي أنه لن يكون هناك «انتقال سياسي»، وإذا بدا أنه لا بدّ منه فسيكون مريحاً وسطحياً. لذلك، فلا قلق لديهما من المفاوضات، كما في السابق، ولا من «الحل السياسي»، ولا من إشراك المعارضة في حكومة برئاسة الأسد. من أين مصدر هذه الثقة لدى الأسد؟ من كونه أطال الأزمة وحوّل الانتفاضة الشعبية «مواجهةً عسكرية مع الإرهاب»، وبمضي الأعوام وتعثّر مختلف الثورات والانتفاضات أصبح خصومه، لا سيما الإقليميين، أقرب إلى منطلقاته ولو أنهم لا يقرّون أسلوبه الإجرامي، إذ يعتبرون أن المنطقة لا تحتمل انتقالاً سياسياً يأتي بـ «نظام ديموقراطي» تفرضه الثورات وتشرف عليه الأمم المتحدة. وعلى رغم دوام الحديث عن مفاوضات جنيف، إلا أن التفكير في مسارات أخرى لم يتوقّف، ومنها العودة إلى «الحل العربي»، طبعاً بعد إعادة سورية إلى عضويتها في الجامعة، إذ يتردد أن مصر ستطرح هذه العودة بعد أن تضمن لها القبول المناسب. * كاتب وصحافي لبناني |