أسس «حزب الله» في بيئته لوعي «انتصاري» صار من الصعب على أبناء تلك البيئة العيش من دونه. النصر هو الشعيرة اليومية التي يقتات عليها هؤلاء، وهو، أي النصر، إذ يتأخر سنة عن انعقاده، ينبعث مجدداً بصفته ذكرى سنوية يُحتفل بها. النصر فعل متجدد، وتُخترع له مناسبات تُمارس خلالها طقوس. فـ «نصر» تموز 2006، صار يُحتفل فيه مرتين، مرة في ذكرى بداية الحرب ومرة في ذكرى نهايتها. ثم إن لـ «النصر» لغته وقاموسه، واللغة تعجز عن النأي بنفسها عن مناسبات قد يُضر «النصر» أصحابه إذا ما استحضر فيها. على هذا النحو، أطاح الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله بتفوقه على خصومه في العام 2009 عندما عجز عن مقاومة عبارة حضرته في سياق سجال انتخابي، فقال عن 7 أيار (مايو)، يوم هاجم حزبه بيروت، إنه «يوم مجيد» فتقاطر السنّة اللبنانيون من كل حدب وصوب واقترعوا ضد الحزب، وخسر الأخير الانتخابات.
نحن اليوم أمام «نصر» جديد، هو «نصر الجرود»، والأخير بدوره حاز على حصة احتفالية يشعر المرء أنها تفوقه أهمية. زُينت القرى باللافتات والشعارات، وأنجبت المخيلات مجسمات «النصر» وأراجيزه، وتم إحياء المناسبات، وتوجت وسائل الإعلام المشهد بمقاطع مصورة من وقائع المعركة الكبرى.
والحال أن «الوعي الانتصاري» هو وعي ضدي، يشتغل بمنطق أهلي ولا يستقيم من دون مهزوم مذهبي. ويبدو أن هذه الوظيفة هي ما يتغذى عليها، وهي أيضاً ما يستجيب لها. ثم إنه، لكي يعيش ويستمر، يجب أن يحقن دائماً بجرعات راهنة من الوقائع والحكايات. وهو بهذا المعنى حال انتشاء جماعي تحتاجه الجماعة في سياق شعورها بتصدرها.
الحاجة العادية إلى «النصر»، في سياق تصريف الوقائع اليومية، أثمرت عن نموذج نفسي يستحق التأمل. فالـ «نصر» يفترض هزيمة إذا ما كان ممارسة يومية. ومعادلة منتصر ومهزوم لا تستقيم إلا إذا تم إحضار المهزوم . في العام 2006، الإسرائيلي هو المهزوم، وهذا الأخير بعيد وغير متاح في الحياة اليومية، فاستعيض عنه بمهزوم أهلي. صار كل من ليس «حزب الله» مهزوماً وخائناً. أما اليوم فالمهمة أسهل، «حزب الله» هزم «جبهة النصرة». ثمة لبنانيون كثر يمكن ضمهم إلى بيئة المهزومين. ووثبة إعلام «حزب الله» التخوينية في سياق «معركة الجرود» هي جزء من تلك المعادلة التي أنشأها الحزب في بيئته، والتي تقوم على فكرة أن «النصر» يجب أن يُعاش يومياً، وأن يُمارس بصفته نصراً أهلياً ومذهبياً، ينأى الحزب بنفسه عنه، ويوكل المهمة إلى مجتمعه وإعلامه «المستقل» وإلى نواب من خارجه.
و«الوعي الانتصاري» أسس لغة صارت جزءاً من الممارسة اليومية للأفراد، وتسللت إلى العلاقة بين البائع والمشتري وبين التلميذ وأستاذه وبين الموظف ومديره. صارت شعوراً ضمنياً وغائراً وبديهياً، تنبني على أساسه مواقف وتنعقد مشاهد، وعليك أنت الهائم على وجهك في بيروت أن تقدر الموقف حين تصطدم بواقعة، فبين أن تتصرف بحكمة المهزوم أو بكرامة المواطن. ثمة فارق كبير في النتائج، وإذا ما سمعت سيارة ينبعث منها خطاب للسيد نصرالله قوي في كرم الزيتون في الأشرفية، فإن الحكمة تقضي بأن لا تُستفز، ولاحقاً بأن تبدأ بتصديق أن ما حصل في الجرود هو نصر، وهذا مسار عبرته على ما يبدو «القوات اللبنانية» وسبقها إليه «تيار المستقبل».
«النصر» إذاً سلطة، ذاك أن السلطة إذا لم تستمد شرعيتها من انتخاب، عليها أن تبحث عن طريق آخر. فهل يعقل أن لا تكون السلطة منتصرة؟ إذا لم تكن هذه حالها ستتلاشى في أقرب فرصة. لكن الحاجة إلى «النصر» متولّدة أيضاً عن خوف أصلي. أن نعجز عن العيش «غير منتصرين»، ففي ذلك استجابة داخلية لشعور بأننا على وشك أن نفقد تصدرنا، وأننا يجب أن نستبق الخسارة بمد أجل النصر. إذا لم نكن منتصرين فنحن مهزومون، وهذا ما يستدرج الرعب. والأرجح أن هذا صحيح في العلاقات الأهلية، وبهذا المعنى فإن مداواة النفس من مرض «النصر» يجب أن تبدأ من طمأنة المصاب.
وهنا تحضر استحالة جديدة تتمثل في أن من المفترض أن من يُبادر للطمأنة صدق أنه مهزوم، وهو اليوم يؤسس لـ «وعي انهزامي» هو غير ذلك الذي لطالما حضر في خطب القوميين التحريضية. الهزيمة هنا أهلية ومذهبية ومولدة لمشاعر ضدية مكبوتة وغائرة، وتنتظر فرصة لتقفز في وجهنا. |