حسين آغا وأحمد سامح خالدي
لا شكّ في أن التغيير لم يأتِ كلّه من الداخل، وفي أنّ البيئة الإقليميّة والدوليّة اختبرت تحوّلات لم تكن مواتية. والحال أنّ حقبة «العالم الثالث»– حيث وَجد الكفاح الوطني الفلسطيني لنفسه موطناً طبيعياً وسط حركات التحرير المناهضة للاستعمار في الجزائر وفيتنام، والتي احتضنتها القوى الآسيوية الناشئة كجزء من حسها الجديد بالاستقلال– زالت من الوجود. والحال أنّ الحقبة الجديدة تشهد تحركاً في الجهة المعاكسة تماماً. وعلى رغم فهم القضية الفلسطينية أكثر من ذي قبل في الغرب، اختار عدد كبير من حلفاء فلسطين السابقين من العالم الثالث المصلحة الاقتصادية الذاتية، مفضّلين إيّاها على الالتزام الأيديولوجي. وخير مثل الدعم الهندي غير المنتظم للفلسطينيين في الأمم المتحدة، وتعزيز الصين علاقاتها التجارية والعسكرية مع إسرائيل. ومن الواضح أيضاً أن البيئة العربية تغيّرت. وفي الأساس، كانت حركة «فتح» بمثابة تأكيد استقلالية الإرادة الفلسطينية في مواجهة الهيمنة العربية، لكونها كانت انتفاضة ضدّ نهب إسرائيل أراضي الوطن. وعلى رغم الصراعات السياسية المتعددة والمواجهات الدموية مع عدد من الدول العربية على غرار الأردن وسورية ولبنان، واصلت منظمة التحرير الفلسطينية استنباط الدعم السياسي والمالي من مناطقها النائية، ومن دول الخليج، ومن قاعدة شعبية أظهرت تعاطفاً شديداً مع الكفاح الفلسطيني.
قد تكون حركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية مرهونتين إلى حد كبير بالمساعدات العربية. لكنّ تعدد المصادر والخصومات المستمرة بين العرب أنفسهم منحت الحركة هامش حرية كبيراً. وإن قُطِع مصدر دعم، كان الاحتمال كبيراً بظهور مصدر دعم آخر. وعلى رغم ارتفاع مستويات التبعيّة الماليّة، أبقت الحركة على حرية حركة سياسية. والحال أن الدعم الجذري الذي حصلت عليه منظمة التحرير الفلسطينية لحل الدولتين عام 1998 ولاتفاقية أوسلو عام 1993 كان من القرارات الفلسطينية «المستقلّة» التي اتُخذت من دون موافقة عربية أوسع نطاقاً، بغضّ النظر عن مدى حكمتها آنذاك ومنذ ذلك الحين.
خلال الاضطرابات وأعمال العنف الإقليميّة في السنوات القليلة الماضية، خسر الفلسطينيون عموماً مهارة المناورة بين الفرقاء العرب ومصالحهم المتضاربة، وأصبحوا يعتمدون على وسائل دعم خارجية أخرى. ومع تراجع المساعدات المالية العربية، بات تكتّل جديد من الدول العربية، يشمل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، يتحكم أكثر فأكثر بآراء العرب في شأن فلسطين، ما تسبّب في تقييد أكبر لاستقلاليّة منظّمة التحرير الفلسطينية. وبطريقة مماثلة، باتت السلطة الفلسطينيّة تعتمد أكثر فأكثر على دفق الأموال الآتية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعلى حسن نيّة إسرائيل حيال تلبية حاجات الشعب الفلسطيني اليوميّة على الأراضي الفلسطينية. وبعد أن كانت مصادر الدعم الخارجية المتعدّدة أداة مفيدة لتعزيز حرّية التحرك في ما مضى، باتت اليوم وسيلة دعم تساعد على الحدّ من قدرة الفلسطينيين على اتخاذ القرارات.
ستسمح حقبة ما بعد عباس بإطلاق مجرى أحداث جديد ومفاجئ كلّياً. والحال أنّ إرث الآباء المؤسسين والطابع المشروع يضمحلّان تدريجاً. وما عاد للاجئين الفلسطينيين ولمجتمعهم الأوسع نطاقاً في المنفى أي صوت حقيقيّ يمثّلهم، وأيّ وسيلة تعبير، وأيّ أدوات تعكس رغباتهم. ومع الصراع المتواصل مع حركة «حماس»، والاضطرابات في غزة وفي الضفة الغربية، والفشل المؤسسي للسلطة الفلسطينية، باتت القيادة تتّسم أكثر فأكثر بضيق أفقها وتعبها، وتستند أكثر إلى الانتخابات الرسمية، لتتأتّى منها نتائج مناقضة تماماً، تتمثّل في أسس تمثيليّة أقلّ صلابةً وصدقاً.
والحال أنّ قائداً منتخباً من أهالي الضفة الغربية وعلى أراضيها قد لا يُرفض في شكل مفتوح من العناصر المكوّنة المشتّتة الشعب الفلسطيني، في غياب الاستمرارية ومع تلاشي الحركة الوطنية. لكنّه في أفضل الأحوال، سيتمتع بجاذبية وسلطة محدودتين على الصعيد الوطني. وبعكس قائد بايعه الجميع، لا يمكن قائداً منتخباً على نطاق ضيّق، أو معيّن ضمن تسوية بين مختلف الجهات، أن يزعم أنه يمثّل الشعب المقيم خارج دائرته الانتخابية، أو أن يتكلّم باسمه. وثمّة شكوك حول قدرة قائد من هذا القبيل على حشد دعم الغالبية أو الاعتماد عليه متى كانت قرارات وطنيّة على المحك. ويستنبط عبّاس نفوذه من الواقع الذي يفيد بأن منتقديه ورافضي إبرام اتفاقية سيذعنون لشروطه هو، حيث إنّ توقيعه لا يفرض فقط طابعاً مشروعاً على أي اتفاقية، بل يزيل أيضاً عن الخصوم أي مسؤولية عن التنازلات التي قد تنتج من الاتفاقية المذكورة. وعلى رغم القيود المفروضة على عباس، قد يكون آخر قائد فلسطيني يتمتّع بسلطة معنوية ومشروعية سياسية، ويتكلّم ويتصرّف باسم الوطن برمّته عن مسائل وجودية حيوية على غرار التوصل إلى اتفاقية نهائية مع إسرائيل.
إن كانت القيادة الفلسطينية المقبلة أقل تمثيلاً من سابقاتها، فقد يبقى السؤال مفتوحاً حول مدى نجاح عهدها في إبرام اتفاقية مع إسرائيل وصيانة هذه الاتفاقيّة مستقبلاً. وسينعكس ذلك حتماً على رغبة إسرائيل في التوصّل إلى اتفاقيّة. ويبدو الأمر واضحاً في الإصرار المتكرّر لرئيس الوزراء بنيامين نتانياهو على أن إسرائيل لن تتخلّى «أبداً» عن سيطرتها الأمنية على الضفة الغربية. وسينعكس ذلك أيضاً على دور الأطراف الخارجيّة وموقفها، بما يشمل مثلاً الولايات المتحدة، لجهة تسهيل اتفاقية أو ممارسة الضغوط للتوصل إليها، وسيخف الاحتمال كثيراً بأن يكون مضمون أيّ اتفاقيّة يُحتَمل إبرامها قريباً من شروط التسوية التي حدّدها الفلسطينيّون. وقد تشكّل السلسلة الأخيرة من الاجتماعات الشعبية الكثيفة الحضور التي استضافتها تركيا ومصر وإيران وحتى فرنسا وهولندا بداية حقبة تواجِه فيها منظّمة التحرير الفلسطينية ضغوطاً متزايدة للدفاع عن دورها المشروع باعتبارها «الممثلة الحصرية والمشروعة» للشعب الفلسطيني، يرافقها مزيد من القيود المفروضة على نطاق تصرفها في الوطن والخارج.
بعد مرور 24 عاماً على اتفاقية أوسلو، قد تكون المؤسسة الأمنية هي الأكثر نفوذاً وقدرةً على التحكّم بمجرى الأمور من بين المؤسسات التي أنشأتها السلطة الفلسطينية. وهي تلقى دعماً وتعزيزات من إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية الرئيسية، في سياق الإجراءات التالية للانتفاضة الثانية، وهي مصمَّمة لكبح العنف والفتنة في الداخل. وقد تحوّلت قوى الأمن التابعة للسلطة إلى ذراع الحكم الفلسطيني الأكثر فاعليةً ووضوحاً وعمليةً. وفي غياب مؤسسات قانونية وعسكرية وتحركات شعبية أو هيئات تمثيل قادرة توازيها نفوذاً، ستجتاح قوى الأمن رغبة جامحة في ملء الفراغ على مستوى القيادة الوطنية الهشّة، أقله لتجنّب انهيار مؤسسي شامل. قوميون وإسلاميون على رغم تشتت حركة «فتح»، إلا أن قاعدتها الشعبية بقيت معلقة، ولم تُسحَب أو توجَّه نحو خيارات بديلة أخرى. والحال أن الفلسطينيين المعروفين بقوميتهم أكثر من إسلاميتهم على صعيد ميولهم السياسية وتوقعاتهم لم ينجذبوا كثيراً إلى حركة «حماس». وقد ظهر التحدي الأساسي في مواجهة «حماس» مع اعتمادها الكفاح المسلح، في مرحلة بدأت فيها «فتح» وأطراف أخرى تتخلى عن السلاح. لكنّ تجربة «حماس» القتالية لم تكن أكثر نجاحاً من تجربة «فتح». ومع أنّ تاريخ المقاومة في غزّة ربّما ساعد في إقناع إسرائيل بإخلاء القطاع عام 2005، لكنّ المعاناة التالية لما حصل لم تشكّل أبداً نموذجاً يحتذى به، أو مصدر إلهام لِمن تبقّى من فلسطينيين. وبصورة مماثلة، كان حكم «حماس» قطاع غزّة طوال عقد من الزمن ملطّخاً بتهم فساد وانعدام كفاءة وطغيان تحاكي تلك التي تم توجيهها إلى نظيرتها السلطة الفلسطينية في رام الله، لكن، بالنسبة إلى «حماس»، رافقتها أعباء إضافية ناتجة من العزلة الشاملة والحصار الإسرائيلي المستمر. وفي شؤون الكفاح المسلح والديبلوماسية والحكم، سيصعب على الأشخاص الذين يعتبرون «حماس» بديلاً ممكناً لـ «فتح» أن يبرّروا بالقول أن الأولى نجحت حيث فشلت الثانية.
في حياتها السابقة، نجحت «فتح» في استيعاب ذوي الميول الإسلامية عبر إذابة تأثيرهم ضمن نسيج وطني أوسع نطاقاً. ومن خلال اعتناق تيار يساري قوي، صدّت «فتح» الميول الإسلامية وحيّدت نفوذها. ومع تولّي «فتح» قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية، تركت مجالاً لآخرين، كي ينطقوا بآرائهم، ويتصرّفوا، وتكون أصواتهم مسموعة. وفي الوقت الراهن، لن تكون منظمة التحرير الفلسطينية التي ضمّت كلاً من «حماس» و «فتح» لا وطنية فعلياً ولا إسلامية صادقة، إنّما تكون تدبيراً فُرض بالقوة، يجمع بين قوتين متناقضتين ومتنافستين تشدّان الحبال في اتجاهات استراتيجية مختلفة. وإلى جانب مسألة القيادة المغيظة، سيصعب ضمان استدامة منظّمة مختلطة ومثيرة للجدل إلى هذا الحد.
إن كانت المرحلة الأساسية للحركة الوطنية قد ظهرت من المنفى، وكانت المرحلة الثانية مرتكزة على الأراضي المحتلة في حرب الأيام الستة، يبدو أن المرحلة الثالثة الناشئة ظهرت بفضل التأثير المشترك لتراجع احتمال التوصّل إلى حل الدولتين من طريق المفاوضات، واضمحلال الحدود أكثر فأكثر بين العرب واليهود على الأراضي الفلسطينيّة. وصحيح أن المستوطنات الإسرائيلية محت حدود عام 1967 في شكل شبه كلّي في اتجاه واحد. إلّا أنّ خمسين عاماً من الاحتلال ساعدت في محو الحدود في الاتجاه المقابل أيضاً. وبعد عقود من العلاقات المشحونة بين الفلسطينيين من جهة والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل من جهة أخرى، شهدت السنوات القليلة الماضية تفاعلاً متزايداً بين النخب السياسية والمثقفة عبر الحدود. فلسطينيو 1948 الحيويون بدأ الرأي العام الفلسطيني الأوسع نطاقاً يقرّ شيئاً فشيئاً بالدور الوطني لأشقائهم في إسرائيل ويعترف بمكانتهم، وراح يبحث عن سبل لرأب الصدع في نسيج الهويّة الفلسطينية. ومع انتهاء مدّة صلاحية الحركة الوطنية «خارج» الضفة الغربية وقطاع غزة، وغياب شبه تام لاحتمال حصول انتعاش ذاتي من «الداخل»، ورث المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل حصة جديدة من الكفاح. وتبيّن أنهم يملكون قدرة على النهوض بأمّتهم سياسياً، وهم أظهروا مرونة وحيوية وحماسة قد تحضّهم على التوجّه نحو إنعاش الحس القومي. وفي ضوء الظروف الدقيقة التي يعملون في ظلّها، وعلى خلفيّة عددهم الصغير نسبياً، وعزلتهم المتواصلة، وعلاقاتهم المشحونة مع الفئات الأخرى من الشعب الفلسطيني، قد نبالغ إن صدّقنا أنّهم قادرون على إنعاش الحركة الوطنية القديمة أو استيعابها على نطاق أوسع أو تولي مهماتها الأكثر إلحاحاً. ومع ذلك، وعلى رغم فوارقهم الشخصية والسياسية، قد ينجح قادتهم الشجعان، واستيعابهم المتزايد لمفهوم الديموقراطية الإسرائيلي، في منحهم مكانة تجعلهم قادرين على التحكّم، بثقة متزايدة، بالمواضيع التقليدية المتصلة بالطموحات الوطنية الفلسطينية وبالكفاح الفلسطيني، ليحصل بالتالي تحوّل ملفت.
غالباً ما برّر السياسيون اليمينيون في إسرائيل موقفهم قائلين أنّ جذور الصراع الراهن تعود إلى وقت أبعد بكثير من عام 1967. وليس التشديد على أنّ أصول الصراع تعود إلى وقت بعيد جداً في التاريخ، من الأمور المثيرة للجدل أو المتنازع عليها. وما حصل هو أنّ اتفاقية أوسلو سعت إلى استبدال حدود 1948 بحدود 1967، بهدف التعتيم على الجذور التاريخية للصراع، في مقابل تسوية سياسية لم تقدّم سوى تصحيح جزئي للوضع ولم تركّز إلا على الوقائع التي شهدتها مرحلة ما بعد عام 1967. وقد بدأت الظروف الراهنة تتجاوز طمس الحقائق هذا. والواقع أنّ اتفاقية أوسلو لم تنجح في تجنّب أحداث التاريخ، وكل ما فعلته القيود التي فرضتها الاتفاقية هو التشديد على صعوبة تجاهل الجذور العميقة للصراع على فلسطين.
أصبح هذا الأمر متجلياً للعيان مع انتقال إسرائيل التدريجي نحو اليمين، ومع انتهاك الحركة الدينية القوميّة المتزايد لمقاليد الحكم وللرأي العام، ومع زيادة التأثير المتشدّد للمستوطنين والمتطرفين، ومع احتدام التوتر بين السكان اليهود والعرب وفق ما يظهر في الخطاب الذي تعتمده قيادات الفئتين.
يمكن التماس إجراءات مماثلة من الجانب الفلسطيني، حيث يتزايد الدعم لحق العودة، وتُتَّخذ خطوات هدفها توثيق ذكرى النكبة وتخليدها ومصادرة الأملاك عام 1948. وقد تسببت المطالبات الإسرائيلية في الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية بتحركات مناهضة تعيد التشديد على الطابع العربي للأرض وتعزز الرواية التاريخية الفلسطينية. وبِغضّ النظر عن بُعد المسافات والتشتت، لا تزال تجربة المنفى قائمة. وقد لا يكون الفلسطينيون في المنفى واثقين كالسابق، ولا تكون أصواتهم مسموعة بصفتهم ممثّلين عن منظمة التحرير الفلسطينية في ذروة مجدها، لكنّ الجيل الشاب لم يُظهر أي إشارات تفيد بأنّه نسي التاريخ أو ما عاد ملتزماً بالقضيّة. ومع تزايد اليأس حيال انعدام جدوى عمليّة السلام، انتعش عناصر الشتات الفلسطيني واستولت الحماسة على مخيّلتهم. ومع أنّ الشتات الفلسطيني القريب قد يكون محاصراً ومُعرَّضاً لضغوط غير مسبوقة، لا سيما في سورية ولبنان، تتوزع مجموعات كثيرة في أماكن بعيدة من هذا المكان، وتُطالب بالعدالة.
مع بروز القضية الفلسطينية عالمياً والتعاطف الدولي حيالها، والتقويض التدريجي للموقف السياسي والأخلاقي الإسرائيلي، لا سيما في الغرب، نشأت بيئة جديدة أكثر انفتاحاً وترحيباً بأفعال الناشطين الفلسطينيين، ويتجلّى ذلك في الدعم المنتشر لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، وغيرها من الأفعال التي تُقدِم عليها مجموعات الناشطين المختلفة داخل حرم الجامعات وخارجه.
قد تكون الحركة الوطنية الفلسطينية التاريخية قد تشتتت، وقد لا تكون خلافتها واضحة أو قريبة الظهور. لكنّ الفلسطينيين لن يختفوا ببساطة من الوجود. وقد تكون المنطقة في قلب الحرائق، أو أقله منهمكة حاليّاً بأمور أخرى، لكن مطالبات العدالة والحرّية الصادرة عن الفلسطينيين ترسّخت في وعي الناس في قسم كبير من العالم، تماماً مثلما حطّت ممارسات إسرائيل من شأن القيم المعلَنة لدولة إسرائيل.
ربّما أصبحت فكرة التوصل إلى حل شامل كلي من طريق التفاوض، يجمع العناصر الأساسية للصراع، بعيدة المنال. وربّما تتوجّب إعادة تسمية وهيكلة ما كان يُعرف بالمشكلة الفلسطينية باعتباره سلسلة من التحديات، يتطلّب كلّ منها تصحيحاً خاصاً، وتشمل هذه التحديات اختفاء لآفاق المشروع الوطني الأساسي الهادف إلى حق تقرير المصير وإنشاء دولة وحق العودة، وإبعاد الشعوب من إرادة ممثليهم الرسميين، والوقائع الناتجة من الانقسام في قطاع غزة، وتواصل تجارب الفلسطينيين في الشتات ومحنهم، والكفاح اليومي من التحرر من الاحتلال إلى الحصول على حقوق متساوية مع إسرائيل.
يبقى المستقبل غامضاً إلى حد كبير. وقد يلقى حل الدولتين بعض الزخم المتأخر في نهاية المطاف مع تلاشي الآفاق. وقد تعود الطموحات الوطنية الفلسطينية إلى الوجهة العربية على نطاق أوسع، كما كانت قبل أن يتم تأسيس الحركة الراهنة. إلا أن الاحتمالات كثيرة جداً. وقد يروق للفلسطينيين في إسرائيل تولّي القيادة. حتّى إنّ فلسطينيي الشتات قد ينفجرون بطريقة متطرّفة وغير محددة. وقد يعاد توجيه طاقات الجهادية الشريرة باتجاه حرب دينية إسلامية - يهودية، تكون القدس محورها. أو قد يعاد الصراع إلى أصوله التاريخية ككفاح للسيطرة على جميع أرجاء الأرض المقدّسة، فتُفتَح بالتالي جراح قديمة، وتظهر جراح جديدة، ويعاد تحديد كيفية حل الصراع وموعده.
قد تتعايش شعلة القومية مع كره الاحتلال والرغبة في عيش حياة حرة وعادية. لكن الحركة الوطنية في حاجة إلى التزام جماعي صادق بالرؤية السياسية وبمشروع عمل يتخطى حدود المنطقة والعشيرة والطبقة الاجتماعية، وتترأسه قيادة واضحة تمت المصادقة عليها، تملك شرعية ومقاماً تمثيلياً يخوّلها التصرّف باسم الشعب. وما عادت هذه الأمور قابلة للتحقيق بالنسبة إلى أي من حركة «فتح» أو السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية.
فليكن ما يكون، وقد يكون من الضروري أن يستوعب الفلسطينيون أن القومية التقليدية التي سادت في السنوات الماضية، وأن «التحرير الوطني»، ما عادا أفضل وسيلة للتعبئة السياسية والتعبير في عالمنا اليوم، وأنه لا بد أن يكيّفوا صراعهم وطموحاتهم مع الوقائع العالمية الجديدة. والحال أن الروابط التي تجمع أفراد الشعب الفلسطيني تبقى قوية ومتينة، إلا أن القومية القديمة الطراز وأساليبها البائدة ما عادت وسيلة تسمح بتمكينهم. وبالنظر إلى أن القومية بحد ذاتها تغيّرت، لا بدّ للفلسطينيين أن يبحثوا عن سبل جديدة للتعبير عن هويتهم السياسية، وأن يجدوا لأنفسهم آمالاً لا يسعها أو يمكنها استنساخ الماضي. * من سانت أنطوني كولدج في جامعة أكسفورد. مشاركان في مفاوضات السلام من أجل فلسطين منذ ثلاثين عاماً. نُشر النص في مجلة «نيويوركر» الأميركية في 6 الجاري، ورحب الكاتبان بنشر الترجمة العربية في «الحياة». |