يروي خالد محي الدين في مذكراته «والآن أتكلم» (مؤسسة الأهرام، القاهرة 1992) أنه وجمال عبدالناصر انتسبا إلى الجهاز الخاص لجماعة الإخوان المسلمين أواسط الأربعينات وأديا أمام المرشد العام للجماعة الشيخ حسن البنا «قسم البيعة في الغرفة المظلمة على مصحف ومسدس في المنشط والمكره». لم يؤسس عبدالناصر «تنظيم الضباط الأحرار» إلا في تموز (يوليو) 1949 أي بعد خمسة أشهر من اغتيال البنا وستة أشهر على الحملة لاقتلاع التنظيم العام للجماعة بما فيه «الجهاز الخاص» الذي كان اغتال رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي في الأسبوع الأخير من عام 1948. اشترط عبدالناصر على الضباط من «الإخوان»، وكذلك الضباط أعضاء تنظيم «حدتو: الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» الشيوعي مثل يوسف صديق وأحمد حمروش وأيضاً المتحول نحو اليسار خالد محي الدين، أن ينشطوا في تنظيم «الضباط الأحرار» بصفتهم الشخصية وليس من خلال صفة التنظيم الذي ينتمون إليه.
كان تأسيس «الضباط الأحرار» بداية الطلاق بين الدبابة والعمامة وبين العسكر والإسلاميين، وهو ما حاول أن يجمعه الشيخ حسن البنا، وعلى ما يبدو أن اكتشاف الأمن المصري لخيط يربط عبدالناصر بالجهاز الخاص للجماعة، عبر كتاب عن كيفية استخدام القنابل من تأليف عبدالناصر، وهو المدرّس في كلية أركان الحرب، وجد في أحد مخابئ «الجهاز الخاص» أدى إلى استدعائه للتحقيق أمام رئيس الوزراء ابراهيم عبدالهادي، وهذا الأمر كان الدافع عند الضباط للبدء بمسار مستقل. لم يكن خليفة البنا، أي حسن الهضيبي، بمستوى سلفه، ولم يكن جمال عبدالناصر عندما التقاه بعد خمسة أيام من إنقلاب 22- 23 يوليو 1952 (الذي أنتج ثورة مصرية) هو عبدالناصر نفسه الذي كان في تلك الغرفة المظلمة أمام البنا. كان واضحاً يومها أن التلاقي صعب بين أقوى رجلين مصريين وأن الصدام حتمي بينهما، وهو ما أدركه الاثنان ذلك اليوم. كانت اعتقالات تشرين الأول (أكتوبر) 1954 حتمية بعد أن فشل عبدالناصر في شق تنظيم الجماعة أو في عملية إطاحة داخلية تنظيمية بالهضيبي، وكانت القسوة التي عومل بها الأخير في التحقيق والزنزانة والسجن تعكس مستوى التوتر العام ليس بين شخصين بل بين مؤسستين: الحاكمون العسكر وتنظيم اجتماعي مليوني يستند في أيديولوجيته إلى ثقافة متجذّرة بقوة في البيئة المحلية.
أنتجت تلك القسوة السلطوية نموذجاً إخوانياً جديداً هو سيد قطب وكتابه «معالم في الطريق» الذي أخرجه معه من السجن في أيار (مايو) 1964 ونشره بعد ستة أشهر في منشورات مكتبة وهبة، ولم يتجرأ الرقيب المصري على إجازته إلا بعد أن قرأه عبدالناصر شخصياً وسمح بنشره، ليتحول ذلك الكتاب إلى مكانة كتاب لينين عند الشيوعيين «ما العمل؟» عند أناس مثل الشيخ عبدالله عزام، شيخ «المجاهدين العرب الأفغان في الثمانينات ضد السوفيات» الذي تتلمذ على يديه أسامة بن لادن، فيما قلب ذلك الكتاب كيان أيمن الظواهري منذ أن كان صغيراً أواخر الستينات. اعتقل سيد قطب في آب (أغسطس) 1965 بعد اكتشاف «التنظيم القطبي الإخواني» الذي دبّر لاغتيال عبدالناصر، وأُعدِم في 28 آب 1966. لم يكن حسن الهضيبي، وهو الذي خرج أيضاً من السجن، موافقاً على ما فعل وخطط سيد قطب، لكنه عندما اعتُقل الأخير كان أيضاً من جملة المعتقلين. في عام 1969 أنجز الهضيبي في السجن كتابه «دعاة لا قضاة» رداً على سيد قطب وأفكاره حول «مفهوم الحاكمية» و «الجاهلية» و «النزعة التكفيرية». عندما أخرجه الرئيس أنور السادات من السجن صيف عام 1971 حاول تغليب أفكاره على أفكار سيد قطب حتى وفاته في تشرين الأول 1973 في التنظيم المعاد بناؤه للجماعة والذي سمح السادات بنشاطه من دون ترخيص رسمي ما دام يشكل حائطاً صاداً ضد اليسارين الناصري والشيوعي. كانت معادلة الهضيبي مع السادات، والتي استمرت مع المرشد العام للجماعة عمر التلمساني (1974- 1986)، أيضاً مع حكم الرئيس حسني مبارك، نوعاً من المساكنة بين العمامة والدبابة. تم سجن التلمساني بأمر من السادات قبل شهر من اغتياله في يوم 6 تشرين الأول 1981 وأخرجه الرئيس مبارك، ولكن الأخير عاد لاستخدام القمع ضد الجماعة منذ عام 1990 وإن كان قمعاً غير شامل على طراز حملتي 1954 و1965.
في كانون الأول (ديسمبر) 2009 أنتجت جماعة الإخوان المسلمين قيادة جديدة أفرزت اثنين من تنظيم 1965 القطبي على رأسها: الدكتور محمد بديع مرشداً عاماً للجماعة ونائبه الدكتور محمود عزت. كان للقيادة «الإخوانية» الجديدة دور رئيس في إطاحة الرئيس حسني مبارك في 11 شباط (فبراير) 2011 بعد أن أنزلت قواعدها لميدان التحرير منذ صباح الجمعة 28 كانون الثاني (يناير) مما جعل حركة 25 يناير مليونية بعد أن كانت قبل ثلاثة أيام حركة ببضعة آلاف. حاولت واشنطن تزويج العسكر والإسلاميين في مرحلة ما بعد مبارك عبر معادلة «المجلس العسكري» و «الإخوان» ولكن رجحت الكفة للأخيرين مع انتخاب محمد مرسي الذي أراد العسكر تقييد فوزه المتوقع بالرئاسة المصرية عبر إعلان دستوري يقيّد سلطة رئيس الجمهورية على شؤون القوات المسلحة، وهو ما ألغاه مرسي في 11 آب 2012 بالترافق مع إحالة المشير حسين طنطاوي وزير الدفاع والفريق سامي عنان رئيس الأركان على التقاعد وتعيين اللواء عبدالفتاح السيسي وزيراً للدفاع، والذي يقال إن الجماعة اختارته لأنه اللواء الوحيد في الجيش الذي زوجته محجّبة وهو يمتّ بقرابة لأحد قادة الجماعة المسجونين عام 1954. لم تكن المعادلة بين عبدالفتاح السيسي ومحمد بديع حتى 3 تموز 2013 سوى تكرار للمعادلة بين عبدالناصر والهضيبي. أنتجت ضربة 3 تموز 2013 سيد قطب جديداً للجماعة هو الدكتور محمد كمال (مواليد 1955. قتل في 3 تشرين الأول 2016)، الأستاذ بكلية طب جامعة أسيوط وعضو مكتب الإرشاد للجماعة عام 2011، الذي أسس حركة «حسم» التي تتبنّى النهج المسلح ضد السلطة المصرية وهو قاد انشقاق 2014 عن قيادة محمود عزت الذي رأى السلمية في مواجهة سلطة الرئيس السيسي.
في سورية تكرار للتجربة المصرية: منذ أحداث مدينة حماة في نيسان (أبريل) 1964 تزعّم «الإخوان المسلمون» حركة المعارضة لسلطة حزب «البعث» الذي استند إلى انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 الذي تزعمته اللجنة العسكرية للحزب، وقد ظهر ذلك جلياً في أحداث عيد المولد النبوي في نيسان 1973 التي أتت احتجاجاً في حماة واللاذقية ومسجد خالد بن الوليد بحمص على الدستور الجديد، ثم في أحداث حزيران (يونيو) 1979 حتى شباط 1982، ثم في محاولة «الإخوان» تزعُّم المعارضة السورية إثر انفجار الأزمة السورية منذ أحداث درعا 18 آذار 2011 عبر «المجلس الوطني» و «الائتلاف الوطني»، قبل أن يطغى السلفيون الجهاديون: «النصرة» و «أحرار الشام» و «داعش» منذ عام 2013 مع طغيان التسلُّح والأسلمة على العمل المعارض السوري.
كانت جماعة الإخوان المسلمين، بفرعيها الشامي (عصام العطار) والحلبي (أمين يكن وعبدالفتاح أبوغدة)، في تاريخ سابق أيدت السلطة السورية الجديدة بقيادة الفريق حافظ الأسد، ولم تؤيد الحركة «الإخوانية» التي تزعمها الحمويان: مروان حديد وسعيد حوى ضد دستور 1973. حاول أمين يكن (التارك للتنظيم العام عام 1975 بعد إعادة تشكيله بمؤتمر بيروت من قبل القيادة «الإخوانية» المصرية حيث أصبح عدنان سعدالدين مراقباً عاماً) مرة ثانية المصالحة بين السلطة السورية و «الإخوان» في أوائل عام 1980 وفشل، وهو ما قاد إلى المواجهة المفتوحة منذ نيسان 1980.
في تونس حصلت المساكنة بين الجنرال زين العابدين بن علي والشيخ راشد الغنوشي منذ حركة 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987، ولكن، لم يستمر الوضع إذ حصلت الضربة لحركة النهضة في أيار 1991 بعدما أظهرت الانتخابات البرلمانية عام 1989 أنها أقوى الأحزاب خارج السلطة، ثم لتظهر انتخابات 2011 مدى قوة هذه الحركة اجتماعياً على رغم عشريتين من القمع والسجون والمنافي.
في الجزائر حاول الرئيس الشاذلي بن جديد مساكنة الإسلاميين بين عامي 1989 و1992 ولكن، ما قام به الجنرالات في 11 كانون الثاني (يناير) 1992 كان انقلاباً عليه وعلى «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» الفائزة بالجولة الأولى للانتخابات البرلمانية ولقطع الطريق على فوزها في الجولة الثانية.
المساكنة الوحيدة الناجحة بين العسكر والإسلاميين حصلت في صنعاء بين الرئيس علي عبدالله صالح والإسلاميين بين عامي 1978 و2011. كان الأمر شبيهاً بما جرى في باكستان في عهدَي الجنرالين أيوب خان (1958- 1969) وضياء الحق (1977- 1988). حاولت قوى عربية معارضة طريق «الخط الثالث» بين «العسكر» و «الإسلاميين» مثل (التجمُّع الوطني الديموقراطي) بسورية في بيان 18 آذار 1980، وكذلك حسين آيت أحمد زعيم حزب جبهة القوى الاشتراكية ولويزا حنون زعيمة حزب العمال في الجزائر ما بعد 11 كانون الثاني 1992.
في سورية 1979- 1982 وتونس ما بعد أيار 1991 وجزائر ما بعد 11 كانون الثاني 1992 ومصر ما بعد 1990، وبعد فاصل ما بعد «ثورة 25 يناير» 2011 في فترة ما بعد 3 تموز 2013... اختار معظم القوى اليسارية الماركسية والعروبية وغالبية الليبراليين والعلمانيين صف «الدبابة» ضد «العمامة». * كاتب سوري |