تبتدئ مواجهة التطرف الديني والكراهية بتخلي السلطات السياسية العربية عن دورها الديني بحسنات هذا الدور وسيئاته، في التعليم في المدارس والجامعات والكليات، وفي إدارة وتنظيم الشأن الديني الدعوي والإرشادي، والإفتاء، وجميع المؤسسات الدينية الأخرى التي تمولها وتنظمها الحكومات، وأن تترك ذلك كله للمجتمعات، وذلك لاعتبارات وضرورات كثيرة جداً. فالخطاب الديني القائم أنشأته وطورته حالة دينية بدأت بالتشكل في أوائل السبعينات، وكان يمثل استجابة للاتجاهات الاجتماعية الجديدة ويبدو منسجماً مع اتجاه الدولة نفسه وأهدافها وسياساتها، ولم يكن قبل ذلك سياسة عامة للأنظمة والسلطات. وقد تطورت الحالة الدينية إلى تحدّ وطني وعالمي بعد نمو وانتشار الجماعات المتطرفة والقتالية منذ التسعينات، ثم انتشار حالات الكراهية والعنف المرتبطة بالإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم.
إن تشكيل خطاب ديني جديد وملائم للمرحلة والتحديات يعني ببساطة الاستجابة من جديد مرة أخرى للاتجاهات الاجتماعية الجديدة والناشئة، ويبدأ ذلك بأمرين بديهيين، تبريد الجبهة بين السلطات والجماعات والتي تطورت إلى صراعات دينية وأهلية خطيرة، وفك الاشتباك بين الدين والدولة، فقد نجحت الجماعات في انتزاع الثقة والشرعية الدينية من الأنظمة السياسية، ولم يعد ممكناً للسلطات سوى الانسحاب من الشأن الديني.
ولا تملك المؤسسات الدينية الرسمية الكفاءة لبناء خطاب ديني جديد يميز بين الديني وغير الديني، والثابت والمتحول، والمقدس وغير المقدس، لأنها تشكلت عبر زمن طويل عبر خطاب معاكس لا يميز بين الديني وغير الديني، وتتضارب مصالحها مع ضرورة وضع الخطاب الديني في مكانه الصحيح بالنسبة إلى دور الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما. أو وضع الخطاب الديني في سياق منسجم مع الإصلاح والتسامح والتقدم. أو وضع الخطاب الديني في سياق مواجهة التطرف والكراهية والإرهاب. وحتى وضع الخطاب الديني في سياق يخدم أهداف الدولة وسياساتها.
تقوم الفكرة البديلة للدور الديني للدولة على تعويم الخطاب الديني، وأن تتولى المجتمعات من خلال الأحياء والبلديات والجمعيات الأهلية إدارة وتنظيم الشأن الديني، التعليم والدعوة والإرشاد والممارسات والشعائر الدينية. وبالطبع يستمر الدور السيادي والتنظيمي للدولة وتطبيق القوانين وكذلك المتابعة والضبط للمؤسسات الدينية المجتمعية، كما تتعامل الدولة مع سائر المنظمات والجمعيات الأهلية.
وفي ذلك يمكن الدولة بناء شراكة مع المجتمعات في بناء خطاب ديني ملائم ومنسجم مع أهداف الدولة والمجتمع، وتحمل المجتمعات رؤية الدولة ورسالتها، وهذا يجعلها أكثر فاعلية ونجاحاً، ويتحول خطاب الاعتدال والتسامح ونبذ الكراهية والتشدد والعنف إلى حالة وثقافة مجتمعية. لأنه وببساطة لا يصلح للدول أن تقوم بعمل المجتمعات ولا أن تكون وصية عليها. وينسجم هذا الخطاب مع الاتجاهات العالمية المعاصرة في الشراكة مع المجتمعات وتقليل دور الدولة فيما يمكن المجتمعات أن تؤديه. وينسجم أيضاً مع فكرة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والرابط القانوني بين المواطنين وفي تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع.
وبذلك تتحول النزاعات بين الاتجاهات الدينية والفكرية إلى خلاف مجتمعي وليس نزاعاً بين الدولة والمجتمع، أو أزمة بين الدولة والجماعات، ففي سعيها إلى العمل وكسب المؤيدين ستكون في مواجهة المجتمع نفسه وليس الدولة، وفي تخفيض الدولة لدورها الديني لا تعود مؤسسات الدولة هدفاً للاختراق ومحاولة التسرب إليها من قبل الجماعات المتطرفة، ولكنها تتحول إلى استهداف المجتمع، ولن يكون ذلك مغرياً أو مريحاً لها لأن المجتمعات لن تنفق بالسخاء الذي تنفقه الدولة، والمجتمعات أيضاً في حاجة للشراكة مع الدولة، ولن تغامر بعملها ومواردها لأجل هذه الجماعات وأفكارها.
وأعلم بالطبع أن تخلي الدولة عن دورها الديني سياسة تؤدي إلى صدمة عميقة، لكنها أزمة لا بد من مواجهتها مهما كان الثمن ومهما كانت السلبيات والعيوب، فلا خيار في المواجهة عاجلاً أو آجلاً وكل ما نفعله هو كسب الوقت أو ترحيل الأزمات، لكنها أزمات تتصاعد وتنشئ كوارث وخسائر أكبر بكثير من الخسائر الناتجة من انسحاب الدولة من الشأن الديني. * كاتب أردني
|