في خطاب العرش الذي ألقاه يوم 29 تموز (يوليو) الماضي، صوَّب عاهل المغرب الملك محمد السادس سهام نقده الحادة إلى الطبقة السياسية المغربية. فبعدما أبدى عدم ثقته بها وصدمته من أدائها، تساءل عن جدوى المنظومة السياسية ممثلة في الدستور، المؤسسات، الأحزاب، العملية الانتخابية وتأليف الحكومات، بينما لم تشهد أحوال البلاد انفراجاً ملموساً منذ إطلاق مبادرة القصر الإصلاحية في العام 2011.
انتقد العاهل المغربي جنوح النخبة السياسية للاختباء وراء شخص الملك لمواراة إخفاقها في تحقيق مهماتها، ما من شأنه أن يضع القصر في مواجهة مباشرة مع الشعب. ودان كذلك سعي تلك النخبة لتحويل أزمة الحسيمة إلى صدام بين المواطنين ورجال الأمن الذين سعوا بصبر إلى استيعاب ما خلَّفه عبث السياسيين وضعف كفاءاتهم من تدهور في علاقة الشارع بالدولة التي دأبت النخب على اتهامها بتبني مقاربة أمنية في التعامل مع الحراك الشعبي السلمي. ومن ثم، طالب الملك بتطبيق الفقرة الأولى من الفصل الثاني في الدستور، التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة، داعياً المقصرين إلى تقديم استقالاتهم والانسحاب من المسؤولية وترك مواقعهم لمن يفوقونهم كفاءة.
وفي هذا السياق، يمكن الوقوف عند رسائل ثلاث تضمنها خطاب العاهل المغربي، تصب في مجرى أزمة النخب السياسية العربية عموماً، إن في ما يخص العلاقات البينية المعقدة بين مكوناتها، أو ما يتصل بعلاقاتها الشائكة والقلقة مع كل من رأس السلطة والجماهير.
أما أولى تلك الرسائل، فتتمثل في أن انتقادات ملك المغرب لا تنطبق فقط على النخب السياسية التي تعرف بـ «الحاكمة»، كونها تمسك بمفاصل السلطة على خلفية تمتعها بأسباب القوة إلى جانب الإمكانات الفكرية والإبداعية التي تعينها على إدارة الدولة، فهي تشمل كذلك النخب «البديلة» أو المعارضة.
أسقط العاهل المغربي ورقة التوت عن النخبة السياسية المغربية حين فنَّد سعيها الدائم لتعليق فشلها على شماعة غياب البيئة المواتية لاضطلاعها بالدور المنوط بها، عندما لفت إلى أنه هيَّأ لها هذه البيئة، بإعلانه في 9 آذار (مارس) 2011 «دينامية سياسية جديدة»، تضمنت تعديلات دستورية كانت الأوسع منذ العام 1962، إذ زادت صلاحيات رئيس الحكومة، وكفلت نزاهة الانتخابات وحقوق الأقليات والحريات، وألزمت الدولة تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. غير أن تلك النخب، وفقاً للعاهل المغربي، كانت أعجز من أن تغتنم تلك الفرصة وأوهن من أن ترتقي إلى مستوى الحدث عبر استيعاب التغيرات والتجاوب مع التطلعات العليا للدولة، الأمر الذي جعل كل الإصلاحات مجرد حبر على ورق، وبدلاً من أن ترتفع الطبقة السياسية إلى مستوى الدستور هبط الدستور إلى مستوى تلك الطبقة، ليبقى التغيير مجرد شعار.
وتكمن ثانية الرسائل في أن رؤية العاهل المغربي للنخب السياسية في بلاده، يمكن أن تنسحب على بقية النخب السياسية العربية. لجهة اعتبارها غير منشغلة سوى باللهاث وراء ثالوث السلطة والثروة والشهرة، غير عابئة بمتطلبات الوطن وتطلعات الجماهير.
أما ثالثتها، فتتجلى في الإشارات البليغة التي انطوى عليها خطاب العاهل المغربي في ما يتعلق بإشكالية العلاقة المرتبكة بين النخب السياسية والجماهير. فالملك اعتبر أن عجز تلك النخب تمخض عن فجوة شاسعة بينها وبين الجماهير، بدت ملامحها في عزوف قطاع عريض من المواطنين، بخاصة الشباب، عن الانخراط في العمل السياسي، بشتى صوره، بسبب انعدام الثقة بالطبقة السياسية التي أفسد بعض الفاعلين فيها العملية السياسية بعدما انحرفوا بها عن جوهرها النبيل وزجوا بها في أتون توظيفها لخدمة مصالحهم ومآربهم الشخصية.
ومن ثم، تجلت أزمة النخب السياسية والثقافية العربية من رحم استعلاء السلطة عليها، وعدم ثقة الجماهير بها بسبب عجزها عن إنجاز مهمتها المتمثلة في تغيير المواطنين نحو الأفضل وقيادة المجتمع نحو التطور والتنمية. ويتضح منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي هذا الاستعلاء على الحاجات اليومية الملحة للناس، والتعلق بتلابيب المطاردة العبثية لسراب الديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني.
برؤيته تلك، التي يشاطره فيها كثير من نظرائه العرب، يكون العاهل المغربي قد لامس إسهامات أبرز علماء الاجتماع السياسي ورواد نظريات النخبة. فقديماً، ربط موسكا وميشلز بين كفاءة النخبة السياسية وقوتها وثرائها الفكري من جهة، وقدرتها على تقديم الأفكار والقيم الجاذبة لثقة الجماهير ودعمها من جهة أخرى. الأمر الذي سماه موسكا «الصيغة السياسية للنخبة»، فيما عرَّفها ميشلز بـ «المبادئ الأخلاقية العامة»، ولازويل بـ «مجموعة الرموز والأفكار» التي تستخدمها النخب لكسب تأييد الجماهير وتحصين تلك الأخيرة ضد تأثير أفكار النخب البديلة أو المعارضة.
ووفقاً لراسمي معالم العلاقة بين النخب السياسية وكل من السلطة والجماهير، على شاكلة سارتر وغرامشي ولازويل، تتعامل تلك النخب في النظم الديموقراطية مع الجماهير بحساسية مفرطة، كونهم يملكون من خلال الانتخابات سلطة المحاسبة عبر إبقاء مَن يتولون الحكم أو إبعادههم. الأمر الذي يجبر النخب السياسية على مراعاة مصالح المواطنين والتفاني في تحقيق رغباتهم. وظلت النخب السياسية في النظم غير الديموقراطية، لعقود طويلة، أقل مراعاة للرأي العام، معتمدة في خطابها السياسي نبرتي «الوصاية» و «التوجيه»، حيال الناس، انطلاقاً من فكرة مفادها بأن النخب، بحكم تكوينها وتعليمها المتميز وقيمها الأكثر سمواً وامتلاكها عناصر القوة، هي الأقدر دائماً على تحقيق المصالح العامة. لكن معطيات جديدة من قبيل انتشار الأفكار الديموقراطية وثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، أفضت إلى إجبار تلك النخب على التجاوب، وإن ظاهرياً، مع توجهات الرأي العام.
ووفق باريتو (1848-1923) وميشلز (1876-1923)، فإنه إضافة إلى عوامل داخلية وخارجية، لا تخلو من اعتبارات اقتصادية واجتماعية وأمنية، قد تدعم دور النخب السياسية أو تقوضه، يظل نجاح تلك النخب أو فشلها في الاضطلاع بدورها التحديثي والتنموي رهناً بعوامل شتى، مِن أبرزها مستوى نضجها السياسي وتماسكها التنظيمي وتضامنها المعرفي وقدرتها على الدفاع عن أفكارها ومصالحها في مواجهة النخب البديلة، وكذلك جهوزيتها لتجديد دمائها عبر حراك داخلي يتيح استيعاب عناصر جديدة أكثر كفاءة وقدرة على التعامل الناجز مع المستجدات، فضلاً عن مدى فاعلية التوجهات السياسية وأنماط السياسات العامة التي تطرحها تلك النخب، ومدى تعبيرها عن التوجهات الأساسية لدى الرأي العام، وتمثيلها مصالح الجموع المساندة للنخب، بما ضمن استمرار تأييد تلك الجموع، علاوة على درجة المرونة والانفتاح لدى النخب السياسية في التعامل مع النخب الأخرى في المجتمع، اقتصادية كانت أو ثقافية أو عسكرية. * كاتب مصري |