بغداد – حسين داود مطلع الشهر الفائت، أعلنت لجنة الأقاليم والمحافظات في البرلمان العراقي التحضير لمؤتمر موسع سيتم تنظيمه خلال أسابيع لمناقشة تطبيق اللامركزية في البلاد عبر نقل صلاحيات 8 وزارات إلى مجالس المحافظات، وهو ضمن مؤتمرات عدة عقدت على مدى السنوات الثلاث الماضية للغرض ذاته، لكنها باءت بالفشل.
ويأمل المراقبون في أن تساهم عملية نقل الصلاحيات من بغداد إلى المحافظات إلى تحجيم الصراع السياسي على السلطة في العاصمة لتتفرغ الحكومة الاتحادية لمهمات الأمن والدفاع وإدارة ملف السياسة الخارجية، مقابل نقل الصراعات إلى المجالس المحلية ليكون توفير الخدمة معياراً لإدارة لعبة الانتخابات.
ويفترض أن يخطو العراق خطوة تاريخية نحو الانتقال إلى النظام اللامركزي، بعدما أقر البرلمان عام 2008 القانون الرقم 21 الذي يقضي بنقل صلاحيات وزارات المال والصحة والعمل والإسكان والتربية والنقل والبيئة والشباب والرياضة إلى مجالس المحافظات الـ19. لكن حكومة رئيس الوزراء السابق ماطلت في تطبيقه.
البرلمان سبق أن أجرى تعديلاً جديداً على القانون عام 2013 في تحدٍّ لسلطات المالكي الذي اتهم حينذاك بالتفرد في السلطة، أعطى المحافظات مزيداً من الصلاحيات الخاصة بإدارة الموارد الطبيعية والمنافذ الحدودية، على أن يكون المحافظ في كل مدينة المسؤول التنفيذي المباشر عن ملفات الأمن والاقتصاد والتجارة وأن تقوم رئاسة المجلس بالتشريع والتخطيط.
القانون يمنح الحكومات المحلية صلاحية اختيار مسؤولي الجهاز القضائي والقيادات الأمنية والتصرف في انتشار الجــــيش داخل المدن وخارجها، ويلزم العاصمة بالتــــشاور مع المحافظ في تحريك القطعات العسكرية التابعة للحكومة الاتحادية، فضلاً عن زيادة تصل إلى خمسة أضعاف في مبالغ البتــرودولار الممنــوحة للمحافـــظات المنتــجة النفط.
في الجانب الاقتصادي تنص المادة (44) على أن الموارد المالية لكل محافظة تتكون من مخصصات الحكومة الاتحادية، وواردات الضرائب والرسوم والغرامات وبدلات بيع وإيجار أموال الدولة، إضافة إلى خمسة دولارات عن كل برميل نفط خام يُنتج في أي محافظة وخمسة دولارات عن كل برميل نفط خام مكرر في مصافي المحافظة، وخمسة دولارات عن كل 150 متراً مكعباً منتجاً من الغاز الطبيعي في المحافظة.
ومع وصول رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى الحكم، نال القانون دفعة كبيرة إلى الأمام، وأعلن العبادي تأييده لنقل الصلاحيات وجعلها إحدى فقرات برنامجه الحكومي، وأجرى مؤتمراً موسعاً لمجالس المحافظات بحث فيه استعدادات الإدارات المحلية لتسلم الصلاحيات، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فثمة عراقيل سياسية وقانونية تحول دون ذلك. قوانين متضاربة وصراعات سياسية
على رغم أن الدستور العراقي لعام 2005، ينص صراحة على تغيير نظام الحكم في البلاد من تكدس الصلاحيات لدى الحكومة المركزية إلى الأقاليم ومجالس المحافظات غير المنتظمة في إقليم إلا أن الواقع فرض نفسه وبقيت البلاد تدار بموجب قوانين الإدارة المركزية التي يعود بعضها إلى أول حكومة جمهورية في البلاد عام 1958.
وتنص المادة (120) من الدستور على أن «تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة، بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، وينظم ذلك بقانون، ويعد المحافظ الذي ينتخبه مجلس المحافظة، الرئيس التنفيذي الأعلى في المحافظة، لممارسة صلاحياته المخول بها من جانب المجلس، ولا يخضع مجلس المحافظة لسيطرة أو إشراف أي وزارة أو أي جهة غير مرتبطة بوزارة، وله ماليةٌ مستقلة».
بل إن الدستور العراقي ذهب إلى أبعد من ذلك ومنح المحافظات صلاحيات إدارية أوسع من الحكومة المركزية، إذ تنص المادة (115) على أن «كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنــتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتــركة بيـــن الحكومة الاتحادية والأقــاليــم، تكون الأولويـــة فيها لقانون الأقاليم والمحافـــظات غير المنتظمة في إقليم، في حال الخلاف بينهما».
حتى اليوم، ما زالت مجالس المحافظات أسيرة وزارة المال في بغداد، فالمشاريع الخدمية والاقتصادية وفتح أبواب الاستثمار في المحافظات لا بد أن يمر عبر وزارة المال للموافقة على صرف الأموال، وعلى مجلس الوزراء الموافقة على المشاريع الاستثمارية. وفي الشهر الماضي، ألغى مجلس الوزراء مشروعاً استثمارياً وقعته الإدارة المحلية في البصرة حول الطاقة بعد شبهات فساد. والفوضى التي عمّت المحافظات بعد تسلمها صلاحيات محدودة وفشل تطبيق صلاحيات أخرى يعود إلى شح التشريعات المطلوبة لهذا الغرض، فالبلاد تحتاج إلى ثورة تشريعية هائلة تغطي قوانين سلطات شمولية حكمت البلاد على مدى العقود الأربعة الماضية.
بموجب قانون صلاحيات مجالس المحافظات، فإن المحافظة هي التي تدفع رواتب موظفي الهيئات الحكومية وفروع الوزارات، لكن قوانين الخدمة المدنية لعام 1960 ورواتــــب موظفي الدولة الرقم (22) لعام 2008، وقانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام لسنة 1991 ما زالـــت ســـارية المــــفعول وهي من صلاحية الحكومة الاتحادية ووزارة المال.
كما أن كتلاً سياسية بدأت تطالب أخيراً بإلغاء المجالس المحلية المنتشرة في كل منطقة وتعتبر الذراع الأساسية لمجالس المحافظات، والحجة ما تستنزفه من أموال كبيرة في ظل أزمة مالية تعصف بالحكومة، وفشلها في توفير الخدمات الأساسية، وهذه المجالس عنصر التواصل الوحيد بين السكان ومجلس المحافظة.
ويدخل الصراع السياسي في صلب العراقيل الحائلة أمام نقل الصلاحيات إلى المحافظات، إذ تتقاسم السلطة في مجـــالس المـــحافظات أحزاب عدة متصارعة على المقاولات والمشاريع، فالأحزاب التي تمتلك وزارات في الحــكومة الاتحادية يســعى أعضاؤها داخل مجالس المحـــافظات إلى عرقـــلة نقل صلاحيات هذه الوزارات إلى المــــحافــظات، لأنها ســـتخسر نفوذاً واسعاً في وزارة تعتبرها ملكاً لها، وبالعكس تسعى الأحزاب التي لا تمــتلك حقائب وزارية إلى انتزاع الصلاحيات لمصلحة المجالس المحلية. نقص الكوادر الكفوءة
المشكلة الأخرى تتعلق بمجالس المحافظات ذاتها، إذ لا تمتلك الخبرة الكافية لإدارة صلاحيات واسعة وكبيرة لثماني وزارات متشعبة، لهذا تواظب منظمات دولية على عقد عشرات ورش التدريب لأعضاء المجالس داخل البلاد وخارجها على إدارة الصلاحيات.
لكن النظام المركزي وتركز السلطات في العاصمة بما تحويه من مقار الوزارات والمؤسسات الحكومية، سبّبا هجرة كفاءات واسعة من المحافظات إلى بغداد بسبب الوضع المعيشي المتردي في مدنهم، وهذه المشكلة تنسحب إلى أثرياء ورجال أعمال المحافظات والسكان الميسورين الذين انتقلوا إلى العاصمة حتى بلغ تعدادها حوالى 7 ملايين نسمة وفقاً لبيانات وزارة التخطيط.
كما أن قوانين العمل الوظيفي تنص على أن كل موظف يصل إلى درجة مدير عام في الدوائر والمؤسسات الحكومية في المحافظات، يتم نقله للعمل في بغداد، لهذا تواجه المحافظات أزمة كفاءات في إدارة الصلاحيات، ما دفع بعض الإدارات المحلية إلى عدم التحمس لقانون المحافظات وطالبت بتأجيل تطبيقه.
إضافة إلى ما سبق، فإن مخاوف كامنة من أن تشجع الصلاحيات المتنامية لدى المحافظات على المطالبة بتشكيل الأقاليم، خصوصاً أن الدستور العراقي يسمح بذلك عبر إعلان المحافظة إقليماً مستقلاً إدارياً أو عبر اتحاد محافظات عدة لإعلان إقليم واحد.
محافظة البصرة التي تعتمد عليها الموازنة الاتحادية بما نسبته 90 في المئة عبر إنتاجها النفطي، طالبت سابقاً بجعلها إقليماً مستقلاً، كما أن الخشية من اتحاد المحافظات السنّية الثلاث، الأنبار وصلاح الدين ونينوى وإعلانها إقليماً مستقلاً على شاكلة إقليم كردستان يجعلان الحكومة الاتحادية التي تسيطر عليها الأحزاب الشيعية مترددة في التنازل عن صلاحياتها للمحافظات. |