تنشر "قضايا النهار" هذا النص للباحثة مهى يحيى مديرة مركز "كارنيغي" في بيروت وهو جزء من دراسة طويلة تحت عنوان "صيف الحراك المدني: الطوائف والمواطنون في لبنان والعراق". تجدر الإشارة إلى أن النص، الذي تختاره "النهار" بسبب جدّيته وجِدّة المقارنة فيه، منشورٌ من دون هوامشه:
توجد في لبنان، الذي يبلغ عدد سكانه نحو 3,8 ملايين نسمة (ما عدا اللاجئين) 18 طائفة دينية مُعترف بها رسميا. أما العراق، بسكانه الـ36 مليونا، فيضم ثلاثة مجموعات طائفية وإتنية - السنّة والشيعة والأكراد - وكذلك 11 أقلية إتنية ودينية ولغوية على الأقل.
وفي حين أن كلاً من الدستورين اللبناني والعراقي يضمنان المساواة لكل المواطنين، إلا أنهما بتخصيصهما المناصب في الدولة وفق خطوط طائفية أو إتنية، يشجعان المواطنين أيضاً على اللجوء إلى الهويات الأولية والبِدائِية. ومثل هذه الهويات تميل إلى اكتساح أوجه الترابط الأخرى، سواء أكانت إيديولوجية أو سياسية.
أرسى لبنان والعراق، عبر اختصار السياسة في مسائل الدين والهوية، نظامين أفسحا المجال أمام بروز حوكمة فاسدة، وممارسات لاديموقراطية، وسياسات المحسوبية، ما قوّض احتمال نشوء حكومات تخدم المصالح الفُضلى لمواطنيهما. ومثل هذه الخدمة، كما هو معروف، هي الشرط الرئيس لأي نظام مدني حقيقي.
ولأن نظامي تقاسم السلطة اللبنانية والعراقية أسفرا عن تقسيم الكعكة الوطنية وفق خطوط طائفية وإتنية، شاعت الزبائنية والمحسوبيات والفساد، وصُمِّمتْ القوانين الانتخابية كي تضمن إعادة انتخاب النخب الطائفية، وتمكين السياسيين من اختطاف التمثيل في طوائفهم، وتعزيز قبضتهم على السلطة، والسيطرة على مؤسسات الدولة. وهكذا، لم يجعل تطييف الحياة السياسية النشاط السياسي خارج القيد الطائفي مسألة غاية في الصعوبة وحسب، بل عنى أيضاً أن غَلَبَة وهيمنة كل سياسي في طائفته هما الوسيلة الوحيدة لحيازة السلطة والنفوذ الوطنيين.
مثل هذه المقاربة سمحت بتعميق سياسات المحسوبية على نطاق واسع في كلا البلدين. فالقادة الطائفيون أو الإتنيون استغلّوا التظلمات التاريخية، وفي بعض الأحيان الإحساس العميق بالتهميش لدى طوائفهم، لتعزيز سلطتهم. وبما أن السياسيين، أو من يُعيّنون، يعتبرون ممثلين لطائفة معينة، فإنهم لا يخضعون في الواقع إلى أي مساءلة، كما أن أي رد فعل على أدائهم الفاشل يمكن أن يُعتبر موجَّهاً ضد طائفتهم أو إتنيتهم. وفي الوقت نفسه، يتم مراراً وتكراراً رفض أي اقتراح لتشكيل حكومة تكنوقراط تتضمن خبراء وكفاءات، بذريعة أن هذه قد تكون خطوة لاسياسية، وبالتالي غير تمثيلية. لكن الواقع أن الافتراض الكامن، والمخاوف، لدى هؤلاء المُشككين، هو أن العناصر التكنوقراطية قد تكون أكثر ميلاً واستعداداً لتنفيذ إصلاحات تستهدف تحسين أداء القطاع العام، لا تلبية رغبات القادة الطائفيين.
تمدّدت الطائفية في كلا البلدين إلى المجالين الاقتصادي والمالي، ورفعت على نحو قياسي مستويات الفساد ووتائره. وخلقت التحالفات المصلحية المتبادلة بين السياسيين ورجال الأعمال بيئات مُشجّعة لرأسمالية المحسوبيات. في العراق، أفرزت إجراءات الرقابة الهشّة خلال حقبة ما بعد 2003 مستويات فساد غير مسبوقة، حيث اختلست النخب السياسية، وموظفو الدولة، وشركات أميركية، مليارات الدولارات. هذا الوضع دفع وزيراً سابقاً إلى وصف النظام العراقي بأنه "سرقة حكومية مُمأسَسة". وفي العام 2016، احتل العراق المرتبة 166 من أصل 177 بلداً في مؤشر منظمة الشفافية الدولية لمدركات الفساد العالمي. وبالمثل، شهد النظام اللبناني مستويات هائلة من المحسوبيات والزبائنية. فالسياسيون يدعون بلا خجل إلى تعيين أقاربهم في المناصب الرسمية، ويطالبون بشكل مُنتظم بالحصول على وزارات الخدمات بذريعة أنهم يدافعون عن حقوق طائفية أو مذهبية. لكن الواقع أن مطالبهم تستهدف بالدرجة الأولى تمكينهم من الانخراط في لجج المحسوبية. وبالتالي، لم يكن غريباً أن يحتل لبنان المرتبة 136 من أصل 176 بلداً في مؤشر منظمة الشفافية الدولية لمدركات الفساد.
تبديد تساوي الفرص
على رغم ما يُقال عن أن هدف نظام تقاسم السلطة هو ضمان إفادة كل الطوائف على قدم المساواة، إلا أن ميل لبنان والعراق للجوء إلى الهويات الفرعية لم يجعل من أي طائفة بعينها مُميّزة أو محظوظة، بل الكل في الواقع خرج خاسرا. صحيح أن بعض الطوائف أفادت بلا شك أكثر من غيرها في مراحل معيّنة في كلا البلدين، بيد أن نظام تقاسم السلطة نفسه أدارته تحالفات بين أقليات انبثقت سطوتها أساساً من قدرتها على استغلال مؤسسات الدولة لتوزيع الغنائم على أتباعها. وهذا كان يتم غالباً على حساب غالبية المواطنين.
نتيجةً لذلك، يُواجه العديد من اللبنانيين والعراقيين مستويات مرتفعة من الفقر واللامساواة، بغض النظر عن طائفتهم أو إتنيتهم. وقد أسفرت حالة اللامساواة هذه إلى تعميق الانقسامات الطائفية، ما عزّز أكثر دور القادة الطائفيين.
في لبنان، جرى بعد إطلاق عملية إعادة البناء في فترة ما بعد الحرب تفسير (أو بالأحرى إساءة تفسير) مبدأ التنمية المتساوية على أنه يعني تقسيم الغنائم بين مختلف السياسيين المتصارعين الذين يمثِّل كلٌ منهم قواعد طائفية منفصلة، فغشت ظاهرة المصالح الطائفية في الحكومة، ما أجهض تطوير استراتيجية تنمية وطنية حقيقية. بدلاً من ذلك، خضعت مخصّصات إعادة الإعمار والاستثمار في البنى التحتية والموازنة إلى الكوتا الطائفية والأولويات الانتخابية. وهذا عنى، على سبيل المثال، أن بناء مستشفى في جزء من البلاد يتطلّب بناء مستشفى آخر في منطقة أخرى، بغض النظر عما إذا كان ثمة حاجة حقيقية لذلك.18 والأخطر أن غياب مبدأ المساواة، كان يُطل عليه غالباً من منظور طائفي ويُعتبر اعتداء على طائفة برمتها.
إذاً، ومرة أخرى، تشير التقديرات الاقتصادية والمالية إلى أن الطائفية كانت في الواقع اعتداء على كل الطوائف. ووفقاً لتقرير البنك الدولي العام 2016، كلّفت سياسة المحسوبيات لبنان نحو 9 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي سنويا. يعود هذا جزئياً إلى الحقيقة بأن الدولة نادراً ما كانت تُعاقب الفساد حين يكون متّصلاً بالنخب السياسية الطائفية. وفيما كان الموظفون الرسميون ورؤساؤهم يحوزون مباشرة على نحو 25 في المئة من أموال القطاع العام، بقيت معدلات الفقر عند مستوياتها المرتفعة، خاصةً في مناطق من الشمال والجنوب. وبالمثل، تُفرض عقبات كأداء أمام عملية خلق الوظائف في لبنان بسبب طغيان الارتباطات السياسية في الاقتصاد، حيث أن المؤسسات التي تتمتع بصلات سياسية لا تلعب دوراً مهماً في تحويل عملية توفير الوظائف إلى أداة للزبائنية السياسية وحسب، بل تحدّ أيضاً من نمو الوظائف في صفوف منافسيها.22
والحال أن آثار اللامساواة في الولوج إلى الخدمات الأساسية مبثوثة في كل أنحاء لبنان. وعلى رغم أن اللامساواة تُفسّر غالباً وفق خطوط طائفية كما أسلفنا، إلا أنها تتعلّق أكثر بالانقسامات بين المركز والأطراف. فالتمركز الشديد للتنمية في بيروت وضواحيها، يعني أن اللامساواة الجغرافية في مجال البنى التحتية والخدمات تحدّ من إمكانات الفرص الفردية، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين يقطنون في المناطق الطرْفية في البلاد. على سبيل المثال، تتصل 53,8 في المئة من المنازل في منطقة عكار الشمالية بإمدادات المياه العامة، فيما يبلغ المعدل العام في البلاد 85,5 في المئة. وتحظى نحو 20,9 في المئة فقط من المنازل في عكار بمياه جارية، فيما 24,8 في المئة وحسب من المنازل في المنطقة ترتبط بنظام الصرف الصحي، في مقابل معدل وطني يبلغ 60,2 في المئة و98,9 في بيروت. وفي الوقت نفسه، لا تتلقى منطقة النبطية في جنوب لبنان، التي بلغت نسبة البطالة فيها 52 في المئة العام 2005، سوى 1 في المئة من إجمالي النفقات العامة، مقارنةً مع منطقة جبل لبنان، حيث تُقدّر البطالة بنحو 20 في المئة ومع ذلك تحظى بـ25 في المئة من النفقات العامة.
هذه اللامساواة فاقمت من اعتماد المواطنين اللبنانيين على قادتهم السياسيين الطائفيين للحصول على الخدمات الأساسية. وهذا بدوره عزّز علاقات المحسوبية بينهم، ما مكّن القادة من استخدام نفوذهم في مؤسسات الدولة وخدماتها كمصدر لهذه الزبائنية. وهكذا، وعلى كل مستويات الحكومة، سمح النظام الطائفي بتحويل الدولة إلى مورد للمكاسب الشخصية الخاصة للقادة الطائفيين الذين يحصدون المنافع السياسية من هذه العملية، حتى ولو عنى هذا خسارة الدولة لصدقيتها. 25
على سبيل المثال، تتلقى المدارس الخاصة المُرتبطة بالجماعات الدينية تمويلاً حكومياً يخوّلها مساعدة العائلات الفقيرة على إلحاق أطفالها ببرامج التعليم ما قبل سن الدراسة (2-6 سنوات). لكن لسوء الحظ، لا تعي هذه العائلات أن الدولة هي التي تموّل هذا التعليم. وبالمثل، أسّس معظم القادة السياسيين منظمات غير حكومية لتوفير الخدمات لقواعدهم الشعبية الأساسية. لكن هذه القواعد لا تدري أن الدولة هي التي تغذي بالمال بعض نشاطات هذه المنظمات. وفي هذه الأثناء، غالباً ما تكون الأحزاب السياسية أو المنظمات غير الحكومية المرتبطة بها هي الواسطة للحصول على الخدمات التي تقدّمها الدولة.
القصة نفسها تكشّفت فصولاً في العراق غداة الغزو بقيادة الولايات المتحدة العام 2003، حين قبض القادة السياسيون، بمعيّة أقرانهم الأميركيين، على غنائم إعادة الإعمار في حقبة ما بعد الحرب. وقد خلقت عملية انهيار الدولة والأمن بيئة ناضجة للاستغلال، وحينها لم تر النور قط الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها في مجالات البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية، من مدارس ومستشفيات وعيادات وشبكات كهرباء وماء وصرف صحي. هذا في حين كانت الشركات التي لها روابط سياسية تحصد معظم العقود العامة، ما قلّص الفرص أمام الباقين.
علاوةً على ذلك، أدّت معوقات الحوكمة والقيود المالية إلى مفاقمة الوضع، إذ لم تسمح المركزية الشديدة لعملية صنع القرار في بغداد سوى بحيّز ضئيل من الحكم الذاتي. فالعائدات في المحافظات كانت، ولا تزال، تُضخ عبر العاصمة التي تحتفظ غالباً بشطر كبير من الأموال بدلاً من إعادة استثمارها في المحافظات.
مثل هذه المعوقات، التي تترافق مع حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الحكومة المركزية في مشاريع البنى التحتية، أسفرت عن نقص حاد في الإنفاق على الخدمات ذات الأهمية الحاسمة على مستوى المحافظات، ومهّدت الطريق أمام عجوزات عميقة في مجالات التنمية البشرية. فالمجتمعات المحلية في طول العراق وعرضه لا تزال محرومة من الخدمات الأساسية، بما في ذلك الكهرباء وإمدادات المياه الكافية والارتباط بشبكات الصرف الصحي. في العام 2011 على سبيل المثال، كان 10 في المئة من سكان مدينة البصرة الغنية بالنفط غير موصولين بنظام الصرف الصحي، و99 في المئة لا يستطيعون الحصول على شبكات ماء مُحسّنة. وهذا دفع العديد من المحافظات ذات الغالبية السنّية والشيعية على حد سواء في الفترة بين 2011 و2014 إلى المطالبة بالحكم الذاتي في مجالي صنع القرار وعملية الإنفاق. لكن سرعان ما رفضت الحكومة المركزية في بغداد هذه المطالب.
كما في لبنان، تجاوزت كل هذه المعوقات والسلبيات في العراق الخطوط الإتنية والمذهبية، بغض النظر عمن كان يتولى السلطة. ففي العام 2007، وعلى رغم هيمنة النخبة الشيعية على الحكومة، سُجّلت أعلى تقديرات معدلات الفقر في محافظة المثنى ذات الغالبية الشيعية (49 في المئة) وبابل (41 في المئة)، وفي محافظة صلاح الدين المُختلطة (40 في المئة). كذلك، وعلى المنوال نفسه، قفزت المؤشرات المنخفضة للتنمية فوق الخطوط الطائفية والإتنية، بعد أن ترك الانقسام بين المركز والأطراف بصماته على إمكان توفير العناية الصحية والتعليم، أكثر بكثير من الانقسام الطائفي. ففي العام 2011، على سبيل المثال، وُجدت أعلى نسبة من الأطفال الذين يعانون من النمو المتعثّر المعتدل أو الحاد في محافظة الأنبار ذات الغالبية الشيعية، وفي محافظتي بغداد وديالا المختلطتين، وفي النجف الشيعية.
وكما في لبنان، تقاطع هذا النقص في توفير الخدمات مع الفساد واستتباع الأحزاب السياسية الطائفية لمؤسسات الدولة، واحتكارها عملية الوصول إلى الخدمات. أحد الأمثلة على ذلك كان كيفية استخدام حركة الصدر للموارد العامة في وزارة الصحة، التي سيطرت عليها بعد العام 2006، لتمويل شبكاتها الخاصة من منشآت الرعاية الصحية. وقد تمكّنت الحركة من ذلك، بفعل قدرتها على الوصول إلى التمويل الحكومي، الذي استخدمته لتمويل المحسوبيات وزيادة عديد قواعدها الشعبية وأنصارها. في مثل هذه البيئة، لا يكون مفاجئاً أن تصبح الدولة الموظّف الرئيس في العراق، حيث يستخدم السياسيون مؤسسات الدولة لإرضاء قواعدهم الطائفية والإتنية. ونتيجةً لذلك، تُمثّل رواتب الموظفين الرسميين والعاملين في مؤسسات تملكها الدولة، 70 في المئة من الميزانية العراقية.
هذه المعطيات تشي بأن عيوب نظام التقاسم الطائفي للسلطة في لبنان والعراق واضحة للعيان، حتى في صفوف أولئك المستفيدين منه. إذ على رغم أن الهدف الأوّلي لهكذا نظام هو منح كل الطوائف دوراً في عملية صنع القرار الوطني، إلا أنه يتضمّن آليات تسمح للنخب السياسية الطائفية بنهب الدولة، من دون أن تخشى التعرُّض إلى المساءلة والمحاسبة. ثم أن الخلل في توزيع الثروة والخدمات، مثله مثل الحقيقة بأن السياسات الطائفية فاقمت من وتائر الفساد وأثّرت سلباً على كل الطوائف، قد ولّدا سخطاً لدى العديد من اللبنانيين والعراقيين. وفي صيف 2015، وصل هذا السخط إلى نقطة الغليان. ومع أن حركة الاحتجاج هذه خرجت بنتائج متباينة، إلا أنها عكست الاستياء العميق لدى المتظاهرين ضد النظامين السياسيين السائدين في البلدين.
(كارنيغي) |